رغم أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها ماكرون لاعتداء من أحد أفراد شعبه، وسبق أن ألقي على رأسه بيض خلال زيارة لمعرض الزراعة بباريس عام 2018، إلا أن ملابسات واقعة صفع رجل له 8 يونيو 2021م خلال جولة انتخابية طرحت تساؤلات حول مستقبله السياسي.
الصفعة هذه المرة جاءت من رجل ينتمي إلى تيار يميني متطرف لا من الإسلاميين كما اعتاد ماكرون أن يصنف أي إرهاب في فرنسا، وهو جناح من فصيل يسمي “الملكيين” ممن يؤمنون بالنظام الملكي ويحبون فرساي ويكرهون الثورة الفرنسية والجمهوريين وينحازون حاليا لليمين المتطرف.
الرجل المعتدي على الرئيس الفرنسي، الذي تم الحكم عليه بالسجن أربعة أشهر، كان يصرخ «تسقط الماكرونية»، قبل أن يصفع ماكرون، كما صاح أيضا بعبارة «مونتجوي سانت دينيس»montjoie saint denis“، وهذا هتاف تيار “الملكيين” حيث كانت هذه هي صرخة معركة الجيوش الفرنسية في فرنسا الملكية.
ويحمل هذا الشعار اليوم يمينيّون متطرفون يطالبون بعودة الملكية في فرنسا ويرفضون الجمهورية وكل أشكال الديمقراطية، وأصبح لهم حضور واضح في السنوات الأخيرة بالتوازي مع تسلم ماكرون للرئاسة.
ما قاله الرجل وهو يصفع ماكرون “تسقط الماكرونية” لم يكن مجرد هتاف غاضب، لكنه تيار بدأ ينتشر بين الفرنسيين يتهم ماكرون بأنه يدفع بفرنسا إلى الهاوية بمعاركه ضد طواحين الهواء، والسعي لتقييد الحريات في فرنسا بدعاوى مواجهة الإسلاميين المتطرفين.
وهؤلاء يرون أن حظوظ ماكرون في انتخابات الرئاسة المقبلة 2022م لن تتعدى حظوظ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، وسيسقط سقوطا مدويا بسبب إدارته الفاشلة لشئون البلاد.
حينما سئل ماكرون عما إذا كانت جولته حول البلاد حملةً انتخابية مبكرة قال إن مسألة ترشحه في 2022م “سابقة لأوانها”، وبعدما سجّلت الكاميرات لحظة صفعه قالت الرئاسة الفرنسية إنها لا تعدو أن تكون “محاولة صفع” فهل “تحاول” الصفعة وأد حملة ماكرون المبكرة؟
ماكرون ظهر في جولته الأخيرة وكأنه يستعد لحملته لولاية ثانية في 2022م، لكن حادثة الصفعة التي تلقاها ألقت الأضواء على السخط من إدارته التي ما زالت تتخبط في معالجة ملفات اقتصادية واجتماعية، وتُعادي جزءاً من المجتمع بذريعة “الانفصالية“.
فهو يواجه منذ سنته الأولى في الحكم، حالة من السخط الشعبي الذي تعمّق مع مرور الوقت، وزاده الركود الاقتصادي ووباء كورونا احتقاناً.
يرى الفرنسيون حادثة الصفعة مرتبطة بحالة سخط شعبي متزايد قد يصيب حملته الانتخابية المبكرة بصفعة سياسية أقوى
و”الماكرونية” التي بشر بها ساعة انتخابه وكانت تبدو أنها حركة سياسية جديدة، باتت اليوم أمراً يحفز الغضب لدى الفرنسيين الذين يرون أنه عمق أزماتهم الاقتصادية.
صفعة انتخابات 2022
سيخوض ماكرون في معركة إعادة انتخابه العام المقبل 2022م وضعاً اقتصادياً صعباً، إذ يسجل عجز الميزانية الحكومية في 2021م مستوى قياسياً جديداً وصل إلى 220 مليار يورو، حسب وزارة المالية الفرنسية.
فالاقتصاد الفرنسي سجل ركوداً كبيراً عام 2020م جراء أزمة تفشي كورونا مع تراجع إجمالي الناتج الداخلي بنسبة 8.3%، حسب تقديرات أولية نشرها المعهد الوطني للإحصاء في فرنسا.
ما يقلق الفرنسيين أكثر أن ماكرون أعلن وهو يؤكد أن مسألة ترشحه في 2022م “سابقة لأوانها”، أنه سيضطر إلى اتخاذ “قرارات صعبة” للخروج من أزمة كورونا، قد تؤثر عليهم اقتصاديا، حيث قال: “سأضطر إلى اتخاذ قرارات بعضها يتعلق بالنهوض وأخرى صعبة”.
لذا لا يري الفرنسيون حادثة الصفعة مسألة فردية تتعلق بتيار ملكي فقط، وإنما مرتبطة بحالة سخط شعبي متزايد، قد يصيب حملته الانتخابية المبكرة بصفعة سياسية أقوى.
ويعيش ماكرون يعيش حالياً وقبيل أشهر من الانتخابات، واحدة من أصعب الفترات داخلياً منذ ظهوره على ساحة السياسة الفرنسية، إذ يشير استطلاع رأي أجرته مجلة Paris Match الفرنسية 8 يونيه إلى أن الرئيس الفرنسي يتمتع بنسبة تأييد لا تتعدى 41% من الشعب!
بينما تشير استطلاعات أخرى إلى أن ماكرون لن يحصل إلا على 28% من الأصوات في الدور الأول، فيما قد يحصل على 54% من الأصوات في الدور الثاني إذا ما تواجه مع مارين لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، حسب استطلاع أجرته قناة LCI الفرنسية ونُشر في 24 مايو/أيار الماضي.
ربما لهذا قال جيلبير كولار، النائب الفرنسي اليميني، لقناة LCI الإخبارية الفرنسية، إن الصفعة التي تلقاها ماكرون تحمل دلالات قوية، وإهانة تؤثر على استطلاعات الرأي القادمة؟
من هم الملكيون؟
ألقت عبارة “مون جوا سانت دونيس” التي صرخ بها المعتدي على الرئيس الفرنسي الأضواء على تيار سياسي جديد قديم في فرنسا يعادي الجمهورية.
قبل صفع ماكرون، أمسك المعتدي بيد الرئيس وصرخ في وجهه قائلا “مون جوا سانت دونيس” (Monjoie Saint-Denis) وهي في الحقيقة عبارة من كلمتين، الأولى “مون جوا ” والتي ترمز إلى راية حرب تاريخية، و”سانت دونيس” وهي مرادف لوصف القديس دونيس.
وتحمل العديد من المناطق والكنائس في فرنسا اسم هذا القديس وعلى رأسها بلدية “سانت دونيس” في العاصمة باريس.
وشعار “مون جوا سانت دونيس” هو تعبير يستخدمه بعض أنصار اليمين المتطرف الفرنسي وخاصة أنصار الملكيين، بحسب موقع “أكتي سانت دونيس“.
ويقول مؤرخون فرنسيون إن هذه الصرخة ترمز لمعركة قديمة حدثت بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر، في عهد الكابتيين.
حذّر الخبير السياسي “باسكال بيرينو” من أن هذه الصفعة قد تكون “مؤشرا إلى عودة الغضب الساخن جدا” الذي “جمده” وباء كوفيد
و”الكابيتيون” سلالة تضم كل من ينسب إلى أوغو كابيه ملك فرنسا القديم، وفق موقع قناة “أر تي أل” الفرنسية.
وملك إسبانيا خوان كارلوس، ودوق لوكسمبورغ الأكبر هم أعضاء من هذه العائلة أيضا، من خلال فرع سلالة بوربون، وفق ما يوضحه بول كوينتل، في كتابه “موسوعة يونيفيرساليس” (Encyclopedia Universalis)
وأوضح بول كوينتل أنه “من الصعب تحديد أصل العبارة، لكنها، على ما يبدو استخدمت بالفعل في معركة “بوفين” (Bouvines) في عهد الملك فيليب الثاني“
وبالنسبة لملوك الكابيتيين، أتاحت هذه الصرخة استدعاء القديس دينيس والاستفادة من حمايته أثناء المعركة.
وهذه الصرخة، التي قد تبدو قديمة، ظهرت عدة مرات في التاريخ السياسي الفرنسي وقال سياسيون إن أشخاص اعتدوا عليهم في حملات انتخابية سابقة ينتمون لهذا التيار.
وفي الآونة الأخيرة، أدانت محكمة نانتير ثلاثة طلاب، أعضاء في “الحركة الفرنسية” (Action Française) وهي مجموعة ملكية يمينية صغيرة تدعو إلى مناهضة البروتستانتية ومعاداة الماسونية وكراهية الأجانب ومعاداة السامية.
وأدين الطلاب الثلاثة، في 2018م، إثر مشادات مع نائب بالبرلمان الفرنسي اسمه إريك كوكريل، وقد ردد ثلاثتهم نفس الشعار.
وقد أثارت حادثة الصفعة جدلا بين الحكومة التي ترى أنه “تصرف معزول” وبعض المحللين الذين يتساءلون عن درجة رفض رئيس الدولة التي يترجمها هذا الفعل قبل أقل من عام من الانتخابات الرئاسية.
وقالت النيابة الفرنسية إن الرجل الذي صفع ماكرون، داميان تي (28 عاما) من المعجبين بتاريخ العصور الوسطى ومشترك في مواقع الإلكترونية لليمين المتطرف.
هل تفوز كارهة الإسلام؟
ما يقلق الفرنسيين أيضا أن هذا الحادث للرئيس الفرنسي أعاد الأجواء المتوترة التي كانت محيطة به قبل انتشار وباء كوفيد-19 وأزمة “السترات الصفراء” التي دفعت ملايين الفرنسيين للخروج إلى الشوارع للتنديد بسياسة الحكومة قبل أن تتراجع بسبب وباء كورونا.
فقد أحرق الفرنسيون صور ماكرون خلال مسيرات السترات الصفراء وتراجعت شعبية إيمانويل ماكرون إلى أدنى مستوى حينذاك (20 % فقط من الآراء الإيجابية في ديسمبر 2018م).
لهذا حذّر الخبير السياسي “باسكال بيرينو” من أن هذه الصفعة قد تكون “مؤشرا إلى عودة الغضب الساخن جدا” الذي “جمده” وباء كوفيد، وقال السياسي “كزافييه برتران”، المرشح اليميني للانتخابات الرئاسية 2022م، إن “ماكرون لم يقدر يوما حجم أزمة السترات الصفراء“.
خطورة أزمة ماكرون ليست فقط في توقع سقوطه في الانتخابات المقبلة 2022م، بل توقع فوز المتطرفة المعادية بشراسة للمسلمين مارين لوبان ابنه المتطرف (جان ماري لوبان) المرشحة بقوة لتصبح رئيسة فرنسا.
فإذا كان ماكرون يدعو لإسلام فرنسي علماني خاضع للدولة فهي (مارين لوبن) لا تريد المسلمين أصلا في فرنسا، وتطالب بطردهم خارجها رغم أنهم ثاني أغلبية سكانية.
خطورة أزمة ماكرون ليست فقط في توقع سقوطه في الانتخابات المقبلة 2022، بل توقع فوز المتطرفة المعادية بشراسة للمسلمين مارين لوبان
وقد أكدت دراسة أجرتها مؤسسة جان جوريس في أبريل 2021م أن حجم الكراهية لإيمانويل ماكرون هو العامل الرئيسي لاحتمال فوز مرشحة اليمين القومي مارين لوبان في انتخابات 2022م، بالإضافة إلى التقارب في البرامج بين حزبها “التجمع الوطني” واليمين المحافظ المتمثل بحزب الجمهوريين و”شيطنة” الجبهة الوطنية السابقة.
ورأى معدو الدراسة أن المشاعر الأربعة التي يولدها إيمانويل ماكرون وتبرز بشكل أكبر كلها سلبية: “الغضب” و”اليأس” و”الاشمئزاز” ثم “العار”، مشيرين إلى أن العواطف تلعب “دورا مهما” في السلوك الانتخابي.
وتفيد دراسة أجرتها مؤسسة “فوندابول” بأن 78% من الفرنسيين يميلون إلى الامتناع عن التصويت أو التصويت ببطاقة بيضاء أو اختيار حزب يعتبر شعبويا، يسارياً أو يمينياً، في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، ما يزيد فرص المتطرفة “مارين لوبان”.