لا يتوقع من يتجول في شوارع العاصمة الأيرلندية دبلن، أن يرى العلم الفلسطيني يرفرف إلى جانب نظيره الأيرلندي ويتدلى من نوافذ المنازل ويرسم على جدران الشوارع.
لكن نضال الشعب الفلسطيني عادة ما يشغل عقول الأيرلنديين، في ظل علاقات تاريخية بين البلدين تتجاوز الدين والعرق والجغرافيا، لتربطهما بتجربة مشتركة من الاحتلال والقمع والنضال من أجل الحرية.
وفي تصريح، قال جينو كيني، عضو البرلمان الأيرلندي عن الحزب الاشتراكي “الناس قبل الربح”: “هناك الكثير من أوجه الشبه بين الشعبين الأيرلندي والفلسطيني”.
وأضاف: “خلال السنوات الأخيرة، تزايد بشكل لافت تعاطف وترابط ودعم الأيرلنديين مع القضية الفلسطينية، فالاحتلال الإسرائيلي، والاحتلال أو التدخل السياسي في إيرلندا الشمالية من قبل بريطانيا، أحد أوجه الشبه العديدة بين البلدين”.
وأوضح: “تقسيم إيرلندا قبل 100 عام، واستمرار تفتيت الأراضي الفلسطينية من قبل المستوطنين غير الشرعيين، يشعر الأيرلنديون بتعاطف عميق مع الفلسطينيين فيما يتعلق بالاحتلال والوحشية الإسرائيلية، لأنهم يواجهون أيضًا قمعًا مماثلاً على يد البريطانيين”.
وتابع: “الفهم الأيرلندي للنضال الفلسطيني يقوم على تجربة مماثلة، وبالتالي يسمح بالارتباط بالقضية ودعم الشعب الفلسطيني”.
ومضى قائلا: “كما تحظى القضية الفلسطينية بدعم شعبي وسياسي رسمي إيرلندي، ولذلك تعد إيرلندا في طليعة المدافعين عن الحقوق الفلسطينية ومحاسبة إسرائيل على جرائمها وقمعها ضد الفلسطينيين”.
تاريخ مشترك
ورغم تعاطف إيرلندا مع الحركة الصهيونية مطلع القرن المنصرم، عندما شنت مجموعات يهودية شبه عسكرية، حملة إرهابية ضد السكان الفلسطينيين وإدارة الاستعماريين البريطانيين، فيما كان يعرف وقتها بالأراضي الفلسطينية تحت الانتداب البريطاني.
وحينئذ ساوى الجمهوريون الأيرلنديون نضالهم ضد البريطانيين، بالنضال اليهودي ضد نفس الإدارة في فلسطين، ودافعوا عن النضال الصهيوني من أجل تقرير المصير.
لكن بعد التهجير الجماعي وطرد الفلسطينيين من قبل الجماعات الإرهابية الصهيونية، وإنشاء دولة إسرائيل في عام 1948، بدأ مؤشر المواقف الأيرلندية في التحول تجاه الفلسطينيين.
وترك الاستقلال الأيرلندي في عام 1922 ست مقاطعات شمالية تحت الحكم البريطاني فيما يعرف الآن باسم إيرلندا الشمالية، إذ كان هذا الانقسام نقطة خلاف بين الجمهوريين في الجنوب والوحدويين في الشمال.
خلال حرب الاستقلال الأيرلندية 1919-1921، قامت الحكومة البريطانية، في محاولة لتعزيز قواتها ضد الجيش الجمهوري الأيرلندي الناشئ (IRA)، بنشر قوات “بلاك أند تانس”، وهي وحدات من عشرة آلاف مقاتل سيئ السمعة، عرفوا بالوحشية وارتكاب أعمال عنف عشوائية ضد المدنيين الأيرلنديين الأبرياء.
كما شملت قائمة أعمالهم أيضا الاعتقالات التعسفية وحرق المنازل والشركات والمزارع والمراكز المجتمعية والقتل الجماعي للمدنيين، في أعمال انتقامية ضد الجيش الجمهوري الأيرلندي.
محتل مشترك
بدوره قال جون برادي، عضو البرلمان الأيرلندي والمتحدث باسم الشؤون الخارجية والدفاع في حزب “شين فين” المعارض: “نتفهم محنة الشعب الفلسطيني لأن لدينا تاريخًا مشتركًا من الاستعمار والقمع، ولذا فإن هذا الفهم متعمق في الروابط التاريخية منذ الحقبة الاستعمارية”.
وأوضح برادي للأناضول أن “وحدات (بلاك اند تانس) تم إحضارهم إلى إيرلندا في القرن العشرين لسحق الثورة الأيرلندية، وارتكاب لفظائع وحشية ضد الشعب الأيرلندي، وفي الواقع أن قسمًا كبيرًا منهم ذهب إلى فلسطين واستخدمه البريطانيون لقمع الشعب الفلسطيني بوحشية”.
وأكد أن الشعبين لديهم تاريخ مشترك من الاستعمار ونفس القمع الوحشي باستخدام نفس الوسائل الوحشية.
كما أوضح أن الاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية ذكر الأيرلنديين بتجربتهم المروعة مع البريطانيين، حيث يعتبر الكثيرون إسرائيل دولة غير شرعية أقيمت بالقوة بهدف السيطرة على السكان الأصليين.
اعتبر أن الحاكم البريطاني لفلسطين، حين كانت تحت الانتداب البريطاني، أن فكرة إسرائيل هي “ألستر اليهودي الصغير المخلص” في الشرق الأوسط.
و”ألستر” هو الاسم الذي يطلق على إيرلندا الشمالية، التي يرى الجمهوريين أن إنشائها جاء كمحاولة لاحتواء القومية الأيرلندية.
وبالمثل تم استخدام مصطلح “ألستر اليهودي” لوصف إنشاء إسرائيل كمحاولة بريطانية لكبح تيار القومية العربية الذي صعد في نهاية الحرب العالمية الثانية.
وعلى خلفية الاحتلال الإسرائيلي الوحشي للشعب الفلسطيني وقوانين الفصل العنصري، أعربت إيرلندا بشكل متزايد عن دعمها للقضية الفلسطينية، وشجبت الاحتلال غير القانوني، وأقرت عددًا من القوانين المؤيدة للفلسطينيين التي أثارت غضب القادة والمشرعين الإسرائيليين.
مساع أوروبية
وعقب تحول الرأي العام الأيرلندي ضد الاحتلال الاسرائيلي، جاء التحول الرسمي، فبعد اعتراف إيرلندا باستقلال الاحتلال الاسرائيلي في عام 1963، أي بعد 15 عامًا من إنشائها، لكن بحلول أواخر الستينيات من القرن الماضي، اهتمت الحكومة الأيرلندية بشكل متزايد بمصير اللاجئين الفلسطينيين.
ومنذ انضمام إيرلندا إلى المجموعة الأوروبية عام 1973، كانت الحكومات الأيرلندية في طليعة مناصري القضية الفلسطينية داخل القارة العجوز.
وفي عام 1980، كانت إيرلندا أول عضو في المجموعة الأوروبية يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية، وفي عام 1993، كانت آخر من افتتح سفارة إسرائيلية في العاصمة دبلن.
بالمقابل، اتهمت حكومات الاحتلال نظيراتها الأيرلندية بدعم هدف منظمة التحرير الفلسطينية المفترض بـ “تدمير الدولة اليهودية”، ورغم ذلك أيدت دبلن دائمًا حل الدولتين مع العودة الكاملة للاجئين الفلسطينيين.
وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو في عامي 1993 و 1995، التقى وزير الخارجية الأيرلندي الأسبق بريان كوين، بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، أثناء ذروة الانتفاضة الثانية ووصفه بأنه “رمز الأمل في تقرير المصير للشعب الفلسطيني”.
وفي مايو/ أيار الماضي، تبنى البرلمان الإيرلندي قرارا غير مسبوق لدولة في الاتحاد الأوروبي، إذ أدان السياسات التي تنتهجها إسرائيل بحق ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة.
قال جون برادي، البرلماني مؤيد وداعم بارز لمشروع قانون الضم: “لا يمكننا كدولة أن تكون لنا علاقات طبيعية مع دولة غير طبيعية، دولة تنتهك باستمرار القانون الدولي وحقوق الإنسان”.
في انتظار المزيد
ويشعر الأيرلنديون أن حكومتهم وبرلمانهم لم يقطعوا شوطا كافيا في محاسبة الاحتلال الاسرائيلي على الجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين، مؤيدين اتخاذ إجراءات ملموسة لوقف الاستعمار غير القانوني للأراضي الفلسطينية تتضمن عقوبات وفك ارتباط نشط مع الاحتلال الاسرائيلي.
وتتفق مع هذا الاتجاه يارا الآغا، الباحثة الفلسطينية في شؤون البرلمان الايرلندي، قائلة: “بدون إجراءات فعلية وعقوبات اقتصادية وتجارية ضد الاحتلال الاسرائيلي، فإن معاناة ومحنة الفلسطينيين ستستمر بل وستزداد سوءًا”.
وأضافت الآغا للأناضول: “فرض عقوبات على هذه المستوطنات غير القانونية وحظر التجارة من هذه المستوطنات من شأنه أن يضغط اقتصاديًا على الاحتلال الاسرائيلي بالإضافة إلى ضغوط سياسية ودبلوماسية”.
بموقف مماثل يرى جون برادي، عضو البرلمان الأيرلندي أن حكومة بلاده “لا تفعل ما يكفي لوقف الاحتلال غير القانوني، ويجب اتخاذ المزيد من الإجراءات لمعالجة هذه القضية”.
وأضاف برادي أن “الإدانة والضغط الدبلوماسي أمور جيدة، لكن بدون عقوبات، وبدون إجراءات حقيقية، لن يتوقف القصف والاحتلال والفصل العنصري”.
وانتقد فشل الحكومات الأيرلندية المتعاقبة في اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل، قائلا: “يمكن تغطية جدران البرلمان بأوراق الإدانات، فليس لها أي تأثير على الأعمال غير القانونية لإسرائيل”.
ويعتقد برادي أن تمرير مشروع قانون الأراضي المحتلة سيكون بداية مرحب بها في جعل التجارة مع المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية أمرًا غير قانونيا، ووضع سابقة للمجتمع الدولي في إنهاء الاحتلال والقمع في فلسطين.
وفي مقارنة مواقف إيرلندا بنظيراتها في الاتحاد الأوروبي والدول الأجنبية، فإن إعلانها دعم نضال وحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وإقرار قوانين مناهضة للاستعمار في البرلمان جعلها حليفًا قويًا وفعالًا للقضية الفلسطينية.
ورغم ما تم تحقيقه إلى الآن، إلا أن هناك مزيد من العمل يتعين القيام به لوضع حد لاضطهاد الشعب الفلسطيني الذي من المتوقع أن يتفاقم في ظل رئاسة مجلس الوزراء الجديد من قبل اليميني والقومي المتطرف نفتالي بينيت، وفق مراقبين.