فترة السبعينيات والثمانينيات كانت امتدادا للفترة الذهبية لبيع الكتاب المطبوع، وكانت مكتبات الكتب منتشرة بكثافة في شوارع الإسكندرية، قبل أن تبدأ في التناقص مع دخول الألفية الجديدة.
كنت سعيد الحظ لإقامتي في بؤرة الحدث الثقافي في مركز الإسكندرية القديمة؛ فمن بيتنا سيرا على الأقدام أستطيع الوصول لشارع سعد زغلول وشارع فؤاد وشارع النبي دانيال وشارع العطارين، وفي هذه الشوارع التجمع الرئيس لمكتبات الإسكندرية.
في شارع العطارين، قريب من جامع العطارين في اتجاه “فرن أثينا” على نفس رصيف الجامع، كانت مكتبة “إخوان الصفا وخلان الوفا”، المكتبة الوحيدة التي كانت مكتوبة في دليل الإسكندرية السياحي، وفرضت نفسها كمزار ومقصد للسياح، وكمقصد أيضا لمحبي الأدب، ومنهم أساتذة آداب الإسكندرية لكثرة ما تحويه المكتبة من كتب في مختلف فروع الأدب.
صاحب المكتبة ومؤسسها في الخمسينيات عم “محمد غنيم”، كان من سكان حي بحري، وتوفي في الثمانينيات، وتولى إدارة مكتبته زوج أخته عم “إبراهيم المفتي”، وبموت عم “إبراهيم” في نهاية التسعينيات توقف نشاط المكتبة، وتحولت حاليا لمحل لبيع الثريات (النجف) تماشيا مع النشاط الجديد للمنطقة.
وعلى امتداد الشارع بخطوات قليلة وصولا لشارع سيدي المتولي، كانت توجد مكتبة قريبة من المركز الثقافي اليوناني، وأصبحت الآن محلا لبيع العدد والآلات الصناعية.
وقريب من بيتنا في شارع “إسماعيل مهنا” قرب تقاطعه مع شارع “السبع بنات” كانت مكتبة الشيخ “إبراهيم”، وكانت المكتبة مهتمة بكتب التراث، وكان يكتب سعر كتبه بالقلم الرصاص على أول صفحات الكتاب، وربما يكون لقب “شيخ” مرتبط باهتمامه بالتراث، ولم يتزوج الشيخ إبراهيم واندثرت المكتبة بموته في الثمانينيات.
وقريب منها مكتبة عم “حسين” بجوار جامع سيدي البردي.
وفي حي بحري المكتبة الحجازية وصاحبها عم “عمر حجازي” أنشأها في الخمسينيات في “زاوية الأعرج” عند تقاطعه مع شارع “إسماعيل صبري” في حي بحري، وهو رجل متبتل للكتب أيضا ولم يتزوج، وكانت مكتبته مقصدا لكبار الأدباء؛ فكان من زبائنه العقاد والمازني وغيرهم، وكان يختم الكتب التي يبيعها بختم مكتوب عليه “المكتبة الحجازية – زاوية الأعرج – إسكندرية”، وتحولت المكتبة بعد وفاته في بداية الثمانينيات إلى محل لبيع الفاكهة، أمام محل عصير طلعت.
وفي محطة مصر كانت “مكتبة الاستنارة” لصاحبها المهندس “نبيل عبد المتعال” متخصصة في الفن، وكانت مقصدا لأهل الفن، ويقال بأن أم كلثوم زارت المكتبة، وصاحبها من محرم بيه ومكانها في محطة مصر قريب من مقهى صيام.
وعلى شريط الترام المتجه لمحرم بيه قريب من محطة شارع الإسكندراني “مكتبة الحريري”، ولي معها ذكرى حين دخلتها بداية الثمانينيات وأنا في مقتبل الشباب، حيث وجدتُ على أعلى رف من مكتبته مجموعة مجلدات تتجاوز عشر مجلدات مكتوبا على كعبها باللون الذهبي: “نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد”، كنت وقتها قد قرأت “نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده”، فسألت صاحب المكتبة عن سعر الكتاب، فكان سعره يتجاوز مصروفي الشهري بعشرين ضعفا، وبدا على وجهي الأسى، فأشفق علي صاحب المكتبة وأردف قائلا: “ممكن أقسط لك ثمنه”، فابتسمت وشكرته وانسحبت من المكتبة في هدوء.
كان أصحاب المكتبات في هذا الوقت خبراء في الكتب، ويستطيعون التفرس في الزبون ويوجهونه لما يتناسب مع اهتماماته، فضلا عن علاقة الود التي كانت تربط أصحاب المكتبات عموما بزبائنهم، وتسهيلاتهم التي يقدمونها لطلاب المعرفة، وسماحهم لوقوف روادهم بالساعات داخل المكتبة، وكان كل منهم يبحث عما يميز به مكتبته، فهذا متخصص في الأدب وغيره في الفن أو كتب التراث، وهكذا.
وللأسف معظم هذه المكتبات -كما رأيتم من هذا الاستعراض- اندثرت وعفّى أثرها، وإن لم نذكرها اليوم ونحن شهود على وجودها ثم اندثارها، فربما تسقط للأبد من ذاكرة مدينة الإسكندرية.