منذ منتصف القرن الـ20 توسعت البنية التحتية على المستوى العالمي بشكل غير مسبوق، حيث لعبت المتطلبات الناجمة عن الزيادة السكانية الضخمة دورا رئيسا في تعزيز هذا الاتجاه.
لكن القناعة التي سادت بين الخبراء هي أن الاستثمار الكثيف في البنية التحتية يعد قاطرة الدفع الرئيسة لتسريع معدلات النمو الاقتصادي، كما يعد عاملا حاسما في الاهتمام العالمي بتوسيع وتطوير وتحديث البنية التحتية.
تبدو تلك القناعة سائدة وبقوة في عالم اليوم، فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب تعهد في حملته الانتخابية بخطة تريليونية للنهوض بالبنية التحتية في الولايات المتحدة، والرئيس الحالي جو بايدن أعلن أن هدفه إنفاق 1.3 تريليون دولار على البنية التحتية على مدى عقد من الزمان لتحفيز الاقتصاد.
كما أن أغلب التحليلات الاقتصادية يرجع نجاح تجربة التنمية الاقتصادية في الصين وعديد من دول جنوب شرق آسيا إلى الاستثمار الكثيف في التعليم والبنية الأساسية.
إذن لا خلاف على أن البنية التحتية تمثل أحد الأعمدة الرئيسة لضمان النهوض الاقتصادي، وعلى الرغم من ذلك فإنها تواجه تحديات استثمارية ضخمة.
يقول لـ”الاقتصادية” المهندس دي. وين سليت الخبير الاستشاري في مجال تطوير البنية التحتية وعضو الاتحاد الهندسي الدولي “فيديك”، “الفجوة بين الاستثمار المتوقع والمبالغ المطلوب توفيرها لبناء بنية تحتية عالمية مناسبة بحلول 2040 تقدر بنحو 15 تريليون دولار أمريكي، والتقديرات السائدة الآن تشير إلى أن البنية التحتية العالمية قد تتطلب ما لا يقل عن سبعة تريليونات دولار من الإنفاق عليها كل عام، إذا كان العالم يريد مواجهة الطوارئ المناخية المتزايدة والتعافي من آثار جائحة كورونا”.
ويضيف، “تفشي وباء كورونا وآثاره الاقتصادية جنبا إلى جنب مع استمرار نقص الاستثمار لتلبية الاحتياجات الحالية للبنية التحتية، أوجدت تحديات لم يسبق أن واجه قطاع البنية التحتية مثلها في وقت واحد، فهناك فجوة تقدر بتريليونات الدولارات للاستثمار في البنية التحتية، لكن هناك احتياجات أيضا إلى تريليونات الدولارات لتلبية أهداف التنمية المستدامة، وتريليونات أخرى لإصلاح الاقتصاد وتحفيزه، نتيجة العواقب الوخيمة لوباء كورونا، ومن ثم هناك منافسة حادة على الموارد في الوقت الراهن”.
وفي الواقع فإن الضغوط الناجمة عن وباء كورونا وحالة عدم اليقين التي لا تزال سائدة بشكل أو آخر في الاقتصاد العالمي، وعدم عودة جميع القطاعات الاقتصادية إلى مستويات الأداء التي سادت قبل تفشي الوباء، أحدثت بشكل أو آخر تأثيرات جوهرية في الاتجاهات التي ستعيد تشكيل صناعة البنية الأساسية في المرحلة المقبلة.
ربما يكون أول الدروس المستفادة مما حدث في الاقتصاد الدولي نتيجة وباء كورونا، والضغوط التي تعرضت لها البنية التحتية العالمية، ضرورة أن تضخ الحكومات والقطاع الخاص استثمارات أكبر فيما بات يعرف باسم “توسيع الوصول الرقمي” ليكون الاقتصاد الوطني والعالمي أكثر قدرة على مواجهة أي تحديات ذات طبيعة كونية، كما حدث في 2020 والجزء الأكبر من العام الجاري.
في هذا السياق قالت الدكتورة كيت تشارلز أستاذة الاقتصاد الاجتماعي في جامعة كانتربري “أول ما كشف عنه الضغط الذي تعرض له الاقتصاد العالمي نتيجة وباء كورونا، كان الحاجة الماسة إلى تحسين البنية التحتية الرقمية، إذ كانت الملاذ الأول للمواطنين والحكومات والشركات، والاستثمار هنا لا يجب أن يقف عند حدود توسيع نطاق الاستخدام، بل ربما الأكثر أهمية تبسيط ورقمنة الخدمات العامة، فالوباء دفع فئات عمرية خاصة كبار السن إلى المشاركة بكثافة في استخدام الإنترنت، بعد أن كانوا مترددين في السابق في استخدامها، كما أصبح واضحا تماما أن الإنترنت ستكون وسيلة التواصل الرئيسة بين الحكومة ومواطنيها في أوقات الأزمات”.
ويرتبط هذا الجانب بضرورة أن يتمتع عديد من قطاعات البنية التحتية بمرونة ملحوظة للتعامل مع أوقات الطوارئ، فانخفاض الطلب في أوقات الأزمات يحتم على البنية التحتية أن تكون قادرة على التعامل مع هذا الوضع الجديد، دون أن يلقي ذلك بثقل عنيف على أدائها، وما يستتبعه ذلك من ضرورة التدخل الحكومي لمساندتها اقتصاديا.
من جانبه، أكد لـ”الاقتصادية” ويليس كريستوفر الخبير الاقتصادي، معلقا على هذا الجانب تحديدا، أن أحدث الدروس الرئيسة المستفادة من التجربة العالمية للتعامل مع أزمة كورونا، أنه في لحظات الأزمات الكبرى ينخفض الطلب الكلي بشكل حاد، ويحدث تغير جذري في أنماط سلوك المستهلكين، وتنخفض الإيرادات بشكل ملحوظ، على هذه الخلفية يجب تطوير البنية الأساسية عبر بناء نماذج تكاملية تعزز فكرة البدائل، وهذا سيؤثر حتما في تخطيط البنية التحتية مستقبلا.
ويضرب مثلا في هذا الشأن قائلا، “الإغلاق الذي ساد في عديد من الدول نتيجة الوباء، دفع إلى التحول من النقل الجماعي إلى خيارات بديلة عبر استخدام الدرجات البخارية أو الدراجات التقليدية، هذا سيتطلب منا وضع تصاميم جديدة لطرق المستقبل، وقد بدأ هذا بالفعل في بعض العواصم الأوروبية مثل لندن، كما أن الأزمة الأخيرة كشفت عن حاجة قطاع الطيران إلى النظر في إحداث تغييرات جوهرية في كيفية تصميم المطارات وبنياتها وأحجامها”.
بالطبع يعني هذا إدخال معايير جديدة لتقييم كفاءة البنية التحتية، مثل القدرة على الاستجابة للحالات الطارئة ومدى تكاملها القطاعي ومدى مرونتها، وسيتطلب ذلك مزيدا من الاستثمارات في التقنيات المتقدمة على غرار عديد من الصناعات الأخرى.
لكن تلك التغييرات تعيد العالم إلى المربع الأول المتعلق بالقدرة على تحمل التكاليف، فالصناعة تواجه بالفعل عجزا كبيرا ولا سيما في الاقتصادات النامية، كما أن التدابير المتخذة لدعم الاقتصادات سيكون لها تأثير في الاستثمار في البنية التحتية، فعديد من الميزانيات التي كانت موجهة إلى البناء وجه الآن إلى شبكات الضمان الاجتماعي ومبادرات إعانة البطالة والرعاية الصحية.
بدوره، يرى البروفسير جا آر آر ريتشارد أستاذ التنمية الاقتصادية في جامعة جلاسكو، أنه لا بد من النظر إلى مشاريع البنية التحتية كجزء من الجهود التحفيزية للاقتصاد الوطني مع التركيز على المشاريع كثيفة الاستخدام للعمالة، وقد يكون التحدي الرئيس لقطاع البنية التحتية من وجهة نظره تحديد ماهية المشاريع التي تمثل إضافة حقيقية للاقتصاد على المدى الطويل.
لكنه يرجح أن يكون النفور من المخاطر لدى القطاع الخاص مرتفعا في المستقبل المنظور، عند الاستثمار في المجالات المختلفة للبنية التحتية، ما يحد من إمكانية مساهمته بشكل جذري في عمليات التوسع والتطوير.
وفي هذا السياق يطرح البروفيسور جا آر آر ريتشارد خطة عمل قائمة على عدد من المحاور لضمان سد الفجوات الراهنة في مجال البنية التحتية على المستوى العالمي.
ويقول لـ”الاقتصادية”، “من المتوقع أن ينمو سكان المناطق الحضرية من 3.9 مليار اليوم إلى نحو 6.3 مليار بحلول 2050، وفي آسيا بمفردها هناك حاجة إلى أن يبلغ الاستثمار السنوي في البنية التحتية 1.7 تريليون دولار، إذا كانت المنطقة ترغب في الحفاظ على زخم نموها الحالي، والحكومات في آسيا أو في معظم دول العالم لا تستطيع تمويل تلك الاحتياجات بمفردها، والقطاع الخاص يقف الآن بين افتقاد القدرة المالية في الوقت الراهن على الأقل، وعدم الرغبة الاستثمارية في تلك المشاريع العملاقة في الوقت ذاته”.
ويضيف “من هذا المنطلق لا بد من التركيز على التمويل متعدد الأطراف عبر البنوك المحلية والمؤسسات المالية الدولية، مع منح القطاع الخاص ضمانات واسعة وامتيازات بنكية والعمل المستمر لتحسين المناخ الاستثماري، فخفض المخاطر الاستثمارية سيشجع القطاع الخاص والقطاع التعاوني على المضي قدما بشكل كبير والاستثمار في البنية التحتية”.
ويؤكد أنه في مرحلة متقدمة يمكن العمل خارج النطاق المحلي بهدف بناء شبكات بنية تحتية ذات طابع إقليمي، وهذا سيساعد على خفض التكلفة الإجمالية عبر الاستفادة من فوائد الحجم الكبير، حيث إن هذا التعاون المالي الإقليمي سيساعد بشكل ملحوظ على إدماج التقنيات الحديثة في عملية توسيع وتطوير البنية الأساسية، والأهم أنه سيمنحها درجة أعلى من المرونة ستفيد كثيرا في أوقات الأزمات.