دراسة سير القادة المسلمين تساهم في تطوير نظريات جديدة لعلم القيادة يحتاج لها العالم في كفاحه لبناء مستقبل يقوم على مبادئ وأخلاقيات وقيم ورؤية حضارية بعد أن دفعه قادة بلا مبادئ ولا أخلاق خلال القرنين السابقين إلي البؤس والفقر والخراب الناتج عن الظلم.
ويشكل محمد الفاتح نموذجاً متميزاً للقيادة في التاريخ الإنساني، حيث تتميز تجربته بالثراء والتنوع في التحديات التي تحتاج إلى الإبداع في مواجهتها.
تحرير القسطنطينية والتخطيط الاستراتيجي لتحقيق الانجاز الحضاري
أصالة التجربة: انتصار حضاري
دراسة القيادة أصبحت تحتاج إلى مناظير حضارية جديدة، فبالرغم من أهمية الشخصية القيادية ودورها وقدرتها على القيام بالوظيفة وتحقيق الأهداف.. إلا أن هناك أهمية لدراسة التجربة التاريخية والحضارية التي تمثلها الشخصية وتقدمها للبشرية.
لذلك تشكل دراسة القيادة في تجربة محمد الفاتح نقطة انطلاق لتطوير نظرية إسلامية للقيادة، فهو يمثل الحضارة الإسلامية وتجربتها التاريخية الطويلة في مواجهة الامبراطورية البيزنطية.
لذلك لم يكن الصدام علي أسوار القسطنطينية بين جيشين، ولكن كان بين الحضارة الإسلامية التي استوعبها محمد الفاتح، وقدم نفسه للعالم باعتباره الممثل الشرعي لها، والذي يعمل علي تأكيد تميزها ، ويقدمها للعالم لتحل مشكلاته ، وتقضي علي الظلم والقسوة والوحشية التي تمثلها الإمبراطورية الرومانية .
وهنا يمكن أن نتجاوز فكرة أصالة الشخصية القيادية لننطلق في فضاء أوسع هو أصالة الحضارة والتجربة التاريخية .
إن دراسة سلوك العثمانيين يوضح أهمية الأصالة الحضارية في تشكيل الشخصية القيادية ، وعلي سبيل المثال توضح رسالة عثمان لابنه أورخان تطورا مهما في نظرة القادة العثمانيين لأنفسهم وتصورهم لأنفسهم ودورهم الحضاري ، واعتزازهم بأنهم يمثلون أصالة الحضارة الإسلامية ومبادئها وتجربتها التاريخية ووظيفتها الإنسانية .
إن هذا يمكن أن يشكل مدخلا مهما لتفسير تاريخ محمد الفاتح ،وإنجازه الحضاري بتحرير القسطنطينية من السيطرة البيزنطية ، فهو قائد يمثل الحضارة الإسلامية بكل ثرائها المعرفي ، وتجربة تاريخية طويلة شهدت قيادات قدموا انجازات انسانية وحضارية .
من هؤلاء القادة الذين شكل محمد الفاتح امتدادا لهم جده عثمان الذي كان يري أن وظيفته في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وأن نشر الإسلام واجب مقدس ،وكان يتميز بالقوة والعدالة والرحمة والتواضع ،لذلك جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف ، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان.
يقول عثمان في وصيته لابنه اورخان : لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد ، فنحن بالإسلام نحيا وبالإسلام نموت .. وهذا يا ولدي ما أنت له أهل .. واعلم يا بني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق الله ، وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله ، وأننا لسنا طلاب جاه ولا دنيا .
القيادة القائمة على المعرفة والمبادئ
أصالة الأهداف
هذا يعني أن أصالة القيادة تشمل أصالة المصدر الذي يستمد منه القائد المبادئ والقيم والأفكار ،وأصالة الشخصية باعتزازها بهويتها ووعيها بمتطلبات وشروط الانتماء للأمة والحضارة ، وأصالة الأهداف التي يعمل لتحقيقها.
ولقد جاء بعد عثمان عدد من القادة الذين حرصوا علي الالتزام بالمبادئ الإسلامية التي تم غرسها في نفوسهم ، وشارك العلماء في عملية اعدادهم للقيام بالوظيفة الحضارية والإنسانية .
ومن الواضح أن حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي بشر فيه بفتح القسطنطينية ، ووصف فيه الأمير والجند الذين سيفتحونها ب “نعم ” وهو مفهوم إسلامي يشمل المدح والثناء بكل ما هو خير وشرف وعزة وايمان .. هذا الحديث شكل إلهاما لكل أجداد محمد الفاتح حيث بدأ أورخان في التخطيط لفتح القسطنطينية ، وقام بإعداد جيشه وتنظيمه وفرض الحصار علي القسطنطينية من الناحية الشرقية ، وأرسل ابنه سليمان لعبور مضيق الدرنديل للاستيلاء علي بعض المواقع التي يمكن استخدامها في حصار القسطنطينية من الناحية الغربية ، وقد نجح في جذب الكثير من المسلمين للالتحاق بجيشه الذي أصبح يضم الكثير من المجاهدين .
ثم تولي الحكم السلطان مراد الأول الذي وضع الأسس لنهضة الدولة بالعلم ، وكان من أهم انجازاته العسكرية انتصاره الحاسم علي التحالف الصليبي الذي دعا لتشكيله البابا أوربان الخامس، لكن السلطان مراد الأول حقق انتصاره الحاسم عليهم في موقعة ” تشيرمن ” ثم استشهد بعد انتصاره عليهم في موقعة ” قوصوة “
وكان السلطان مراد الأول يتضرع لله عابدا وزاهدا قائلا: ” إنني أقسم بعزتك وجلالك إنني لا أبتغي من جهادي هذه الدنيا الفانية ، ولكنني أبتغي رضاك ، ولا شيئ غير رضاك يا آلهي ، انني أقسم بعزتك وجلالك أنني في سبيلك ، فزدني تشريفا بالموت في سبيلك “.
وهذا يوضح أن القيادة الإسلامية تتميز بأصالة الأهداف ، فهو لا يعيش ويجاهد للحصول علي منفعة مادية ،أو للحصول علي أبهة الملك ، ومظاهر المجد والسيادة ، ولكنه يعمل لنشر الإسلام وإنقاذ البشرية من الضلال والقهر والظلم والعبودية لغير الله .. وهو يعتبر أن الشهادة في سبيل الله أعظم هدف يعمل لتحقيقه ، ويرجو أن يناله .
هؤلاء القادة شكلوا تجربة تاريخية ساهمت في اعداد محمد الفاتح وتربيته وتأهيله ليكون فاتح القسطنطينية الذي يكون نعم الأمير والذي يقود نعم الجيش فينال بذلك الشرف والمجد والسيادة كرما من الله الذي يعمل لنيل رضاه .
إن أصالة الأهداف هي أهم ما يميز القائد المسلم ، فهي أهداف مستمدة من الوظيفة الحضارية للأمة الإسلامية التي تحمل رسالة الله الخاتمة للبشرية .
من أهم القادة العظماء الذين ساهموا أيضا في تشكيل شخصية محمد الفاتح بتجربتهم التاريخية السلطان بايزيد الأول الذي تميز بالقدرة علي فهم الواقع والبيئة الدولية ، وعقد الاتفاقيات التي تتيح له تحييد قوي معادية ليتمكن من تحقيق النصر علي العدو الرئيس …وبذلك ساهم في التخطيط الاستراتيجي لفتح القسطنطينية .
ومع قوته السياسية أثبت أنه قائد عسكري يتميز بالشجاعة التي أهلته لتحقيق الانتصار في معركة “نيكوبوليس ” علي التحالف الصليبي الذي ضم المجر وألمانيا وفرنسا وانجلترا وسويسرا .. وقد بلغ عدد الصليبيين في هذه المعركة حدا ملأ نفس ملك المجر بالغرور فقال : ” لو انقضت السماء لأمسكناها بحرابنا ” ، لكنه اضطر للفرار من المعركة .
أصالة النسب
ومحمد الثاني أو الفاتح تميز أيضا بأصالة النسب التي تجعله يحرص علي ما ورثه عن أسلافه من شجاعة وكرم وحرص علي الجهاد .. وقد شارك مع أبيه في الكثير من المعارك قبل أن يتولى الحكم فرأى زهد أبيه في الدنيا. وحرصه على الجهاد ، وتكريمه للعلماء والأشراف وكان أهم ما يميز محمد الفاتح حبه للعدل، وهي صفة لأجداده ترسخت في نفسه ، حيث أوضحت له التجربة التاريخية لأبيه وأجداده أن تلك الصفة من أهم مميزات القيادة التي تعمل لتحقيق أهداف عظيمة، وأن العدل هو الذي يحمي الدولة، ويزيدها قوة، ويجمع حولها القلوب. يتضح من ذلك أهمية الارتباط بين القيادة الأصيلة والقيادة القائمة على المبادئ، فحب محمد الفاتح للعدل من أهم تجليات استيعابه للتجربة التاريخية للقادة المسلمين، ومنهم أبوه وأجداده.
ويثبت التاريخ أن إقامة العدل ترتبط بالشرف والمروءة وكرم الأصل.. بينما يرتبط الظلم بالدناءة والانحطاط واحتقار الذات والعقد النفسية الناتجة عن التعرض للإهانة والذل كما توضح سيرة أباطرة الرومان مثل كاليجولا ونيرون.. والتاريخ يقدم لنا الكثير من النماذج.
لذلك كان من الطبيعي أن يحرص محمد الفاتح على الوفاء بالعهود وهو يرى أباه مراد الثاني يرفع المعاهدة على رمحه في مواجهة ملك المجر بعد أن مزقها هذا الملك ثم يحرص على مبارزته ويعفو بعد النصر عن الأسرى ويكرمهم. لذلك تجمعت كل الصفات المرتبطة بالعدل في التجربة التاريخية التي ورثها محمد الفاتح عن أبيه وأجداده. وقد تولى محمد الفاتح الحكم بعد وفاة والده مراد الثاني في 18 فبراير 1451، وعمره 22 عاما.
دراسة التاريخ
من أهم مميزات شخصية محمد الفاتح حبه للعلم خاصة مجال التاريخ، ولقد تعلم في مدرسة الأمراء، وقرأ الكثير من الكتب التي ساهمت في صقل قدراته الإدارية والاستراتيجية، واستيعابه للحضارة الإسلامية والتجربة التاريخية للأمة الإسلامية وتميز بإجادته للغات ومن أهمها اللغة العربية ويتضح من دراسة تاريخ سلاطين آل عثمان أن محمد الفاتح ورث عنهم حب العلم وتكريم العلماء واستشارتهم بشكل مستمر، فقد كان أورخان قد أنشأ أول جامعة عثمانية في نيقو ميديا ( أزميت الان)، كما أنشأ عددا من المعاهد العلمية والمدارس واختار لإدارتها والتعليم فيها المعلمين الذين تم التعامل معهم بكرم واحترام.
وهذا يعني وضوح جانب متميز في قيادة محمد الفاتح فهي قيادة قائمة علي المعرفة التي شكلت أساسها علوم القرآن بالإضافة إلي العلوم التطبيقية التي تستهدف تحسين القدرة علي الانتاج المادي وتطوير الأسلحة وادارة الدولة.
ولعل ادارة محمد الفاتح للصراع مع البيزنطيين ،وانتصاره الحاسم وفتح القسطنطينية قد شغل المؤرخين والعلماء عن دراسة تجربة محمد الفاتح كمدخل مهم لتطوير علم القيادة ، وتقديم نظرية إسلامية للقيادة.
لقد ارتبطت أصالة القيادة في تجربة محمد الفاتح بالقيادة القائمة علي المعرفة ، حيث أن استيعاب محمد الفاتح ووعيه بالتجربة التاريخية للأمة الإسلامية شكل الأساس للمعرفة التي استند عليها كقائد في بناء مشروعه الحضاري ، وتحقيق هدفه في تحرير القسطنطينية من السيطرة الرومانية .
لقد كانت المعرفة التي بذل محمد الفاتح كل جهده لسنوات طويلة للحصول عليها تحت اشراف الكثير من العلماء المتميزين في عصره هي مصدر قوته ، وهي التي ميزت مشروعه كقائد بأصالة المصدر والهدف ، ومكنته من الابتكار والإبداع ، وأطلقت خياله الذي استمد من شوقه لتحقيق بشري رسول الله صلي الله عليه وسلم أفكارا جديدة تتناسب مع صعوبة التحديات ، وتقدم حلولا لأصعب المشكلات .
إن عظمة القيادة وتميزها تتجلي في مواجهة التحديات ، وكلما زادت التحديات صعوبة وتعقيدا زادت حاجة الأمة لقيادة متميزة تواجهها.
بناء الدولة وادارتها
والأمة كلها كانت تنتظر تلك القيادة فهي تمر بمرحلة ضعف ، ولم يكن أحد يتخيل في تلك الفترة أنه آن الأوان لتحقيق بشري رسول الله صلي الله عليه وسلم وفتح القسطنطينية.
إننا يمكن أن نلاحظ ظهور الكثير من المفاجآت في التاريخ الإسلامي ، حيث تظهر قيادات تعيد توحيد الأمة ، وتحقق انتصارات حاسمة .
ولقد كان ظهور الدولة العثمانية نفسها وصعودها منذ عهد عثمان يشكل مفاجأة تاريخية تؤكد أن الأمة الإسلامية يمكن أن تصعد وتنتصر بدون مقدمات ، وهذا يخيف الغرب الآن من امكانية حدوث مفاجأة تاريخية .
ولقد جاء ظهور محمد الفاتح بعد فترة تعرضت فيها الدولة العثمانية نفسها لمحن قاسية أضاعت الكثير من قوتها .. لذلك بدأ محمد الفاتح حكمه بمواجهة اخطر التحديات وهي : كيف يعيد بناء الدولة وتوحيدها وتنظيمها وادارتها .
وقد اهتم محمد الفاتح باقتصاد الدولة ، فعمل علي ضبط الإنفاق ، وتوظيف موارد الدولة واستثمارها ومحاربة الاستثمار والترف ، وقام بزيادة مرتبات الجنود وتطوير الأسلحة وانتاجها .
ثم قام بعزل حكام الأقاليم الذين ثبت تقصيرهم أو عدم كفاءتهم، واختيار حكام يتميزون بالكفاءة والالتزام بالمبادئ الإسلامية .
لذلك شهدت السنوات الأولي لحكمه جهودا متواصلة لزيادة قوة الدولة وتوظيف موارها وادارتها .. وهذا يعني أنه كان صاحب رؤية ومشروع متكامل ، عملت الدولة كلها لتحقيقه .. ولقد نجح في اقناع كل حكام الأقاليم ، ورؤساء الجند والعلماء بالعمل لتحقيق المشروع .
وانطلاق القائد من رؤية يساهم في زيادة قدرته علي ادارة التغيير ، ولذلك تتميز قيادة محمد الفاتح بأنها قيادة تعمل لتحقيق التغيير ، واستثماره لتحقيق الأهداف .
وعملية التغيير بدأت بإدارة الدولة والقضاء علي كل أشكال الفساد والإسراف لتوفير المال اللازم لتحقيق الهدف .. ولقد ساهمت تلك الجهود في تحقيق تقدم الدولة ،واقناع الناس بأن الدولة ملك لهم ، وأن كل مواردها يتم استخدامها لتحقيق مصالحهم واسعادهم ، وأدي ذلك إلي تعبئتهم لتحقيق الهدف ، أو مشروع الدولة العثمانية بفتح القسطنطينية .
فهل شكلت تجربة محمد الفاتح إلهاما لأردوغان في توظيف موارد الدولة وتحقيق تقدمها وادارتها لصالح مجموع المواطنين ؟!.
من المؤكد أن تحقيق الأهداف العظيمة يبدأ بعملية تغيير داخلي تهدف إلي توحيد الدولة ، والتقليل من العوامل التي تؤدي إلي الصراع ، واستخدام موارد الدولة لصالح الناس الذين سيشاركون طواعية في تحقيق انجازات عظيمة .. وبذلك تكون تجربة محمد الفاتح ملهمة لكل قيادة تستهدف تحقيق مهمة أو انجاز عظيم .
لذلك تساهم تجربة محمد الفاتح في تطوير نظريات القيادة بشكل عام ، والربط بين رؤية القيادة وادارة الموارد وتوظيفها واستثمارها وتعبئة القوي البشرية لتحقيق الأهداف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أستاذ الإعلام ـ جامعة القاهرة.