نتناول في عدة حلقات مقترح لخطة تربوية للدرس الإيماني للنشء والشباب، في جانبها الإيجابي أي البنائي، وهذه الحلقات استكمال للقسم الأول الذي تناولنا فيه الجانب السلبي – جانب الهدم- في التربية العقدية والذي يتعلق بهدم أفكار الألحاد والمنكرين كما تضمنها القرآن الكريم، وتتضمن هذه الخطة ما يتعلق بالمبادئ اللازمة في البناء الإيماني، والكليات الفكرية اللازمة.
مبدأ: تكامل العقل مع الوجدان
المبدأ الأول الذي يجب أن يقوم عليه الدرس الإيماني المعاصر، هو النظر المتكامل إلى شخصية الفرد، فهي ليست وجدانًا فقط نقوم فيه بالوعظ بالترغيب والترهيب، بل لابد أن يتقدم العقل كمبدأ رئيس في الوعي الإيماني والتنشئة التوحيدية، ويقوم هذا المبدأ التربوي على مقولة رئيسة مفادها “أن الله تعالى حظر على كل ذي عقل أن يعترف لأحد بشيء إلا ببرهان ينتهي في مقدماته إلى حكم الحس وما جاوره من البديهيات التي لا تنقص عنه في الوضوح، بل قد تعلوه”[1].
هذه السنة الإلهية هي المدخل الرئيس لنمط من التربية يظل في حالة معرفة دائمة وحية بالإيمان والعقائد الصادرة عنه، وهذه السنة تتضمن ثلاثة أساسيات، الأول: الحرية، والثاني: العقل، والثالث: الحكم الذي يصل إليه الإنسان عبر الإرادة الوجدانية التي تنعقد على مسألة الاعتقاد. والتربية / التنشئة على الإيمان/ أصول العقائد وما تتضمنه من عمليات: التعريف، التبيين، المقارنة، الاستنتاج، والشعور، والتساؤل، والجدل… وغير ذلك مما يقع في نطاق المؤسسة التربوية الأولى للتربية العقدية وهي “الأسرة”.. فإن ذلك عبر مسؤولية لا تنفك عنها “…فأهلة يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه” الحديث. وفي الوقت الحاضر أو يتركانه “للإلحاد” بأوسع معانيه، أو لأي من سبله من زعزعة الإيمان، أو اضطراب القيم والمفاهيم الإيمانية في نفس الفرد.
إن موجات الإلحاد التي تأسست في العصر الحديث وامتد تأثيرها إلى الوقت الحاضر تختلف في بنيتها ومساراتها عن الإلحاد في العصور القديمة رغم اتفاقهما في الغاية التي يهدفون إليها وهي إنكار كل الغيبيات جملة ونفي خضوع الكون بكل ما فيه لإله لا يرى بالعين المجردة. ومن ثم فإن طرق تعليم الدرس الإيماني التقليدي – في المجتمعات الإسلامية. ينبغي أن تلاحق هذه المستجدات الإلحادية بل يجب أن تسبقها وتواجه الإلحاد في مكامنه ومراكزه.
إن أول بيئة ينمو فيها الإلحاد هي البيئة التي يسود فيها الجهل ويغيب عنها القلب فكتل الجماهير التي لا تتلقى تربية وتغذية روحية وقلبية ستقع إن عاجلاً أم آجلاً في براثن الإلحاد.. وإذا لم تبذل الأمة عناية خاصة في تعلم أفرادها ضرورات الإيمان، ولم تظهر الحساسية اللازمة في هذا الأمر وتركت أفرادها في ظلام الجهل، فإن هؤلاء الأفراد يكونون قد دفعوا لتقبل كل إيحاء معروض عليهم.
يتجلى الإلحاد في بادئ الأمر باللامبالاة تجاه أسس الإيمان وعدم الاهتمام. ومثل هذا السلوك الذي يتسم بحرية التفكير ما أن يجد أي إشارة صغيرة تعين على الإنكار وعلى الإلحاد حتى ينمو هذا الإلحاد ويزداد، مع أن الإلحاد لا يستند إلى أي سبب علمي. ولكن إهمال معين أو غفلة معينة أو تقييم خاطئ قد يولد الإلحاد[2].
إن النظريات العلمية لاسيما نظرية “التطور والتكامل” التي درست في المعاهد العلمية الإسلامية على أنها حقائق ثابتة، أصبحت وفق التطورات العلمية الحديثة وتطور علم الجينات، لم يعدلها أية قيمة علمية، إلا أنها مازالت نقاط ارتكاز لأسباب الإلحاد بين الشباب[3]. وذلك للفراغ الفكري والثقافي الذي يعاني منه الناشئة والشباب، وفراغ الوجدان والعقل من معارف الإيمان.
إن الإلحاد – في ضوء الفحص العلمي لنظرياته – لا يٌعد الآن إلا انحرافًا نفسيًا وعنادًا وفكرًا جاهزًا من غير تفكير ومزاجًا طفوليًا… وهنا تبدو أهمية التعبئة العلمية والتربوية لنشر المعارف الصحيحة وأن نعتبر هذه التعبئة وظيفة مقدسة يجب أن نؤدي إليها حقها[4].
إن هذا الأمر يؤكد ضرورة التنشئة الدينية العلمية الواعية والتي تبدأ من الأسرة بطرح خطة تربوية علمية مغايرة للتنشئة على الإيمان الواعي، وتحويل الخطاب الآمر للجوانب الدينية لاسيما ما يتعلق بأركان الإيمان إلى خطاب عقلي علمي يشبع حاجة الشباب المعاصر الذي وجد نفسه غارقًا في كل هذه التطورات العلمية التي تتنكر في أغلبها من الدين، أو قامت على أسس مادية تنزع إلى إهمال الدين ومهاجمته.
وضرورة أن يجمع المرشدون التربويون -الذين يقومون على تربية الطفولة والناشئة- في إعدادهم بين: العلم والعاطفة والعقل والقلب وإدراك خصائص الطبيعة البشرية ونظريات علم النفس والفروق الفردية والدوافع والاهتمامات والاتجاهات وطبيعة الانفعالات الإنسانية والمثيرات، وكذلك وسائل الإلحاد المعاصرة وخصائص تلك الوسائل وكيفية التغلب عليها في التعامل مع الشباب والمراهقة.
إن تطوير الدرس الإيماني المعاصر ينبغي أن يرتكز على ثلاثة ركائز هي: العقل والعلم والوجدان. وهذه الثلاثة تواجه الدرس الإيماني التقليدي الذي اعتمد على الوراثة، والتلفيق، والطاعة، فنحن بصدد بناء شخصية جديدة تستطيع مواجهة عواصف التيارات المادية المعاصرة بكل ما تحمله من إفرازات وآثار مثل الإلحاد، والإباحية والانحلال الأخلاقي والتحلل الاجتماعي.
لقد نجح رواد الثورة العلمية ومفكرو التنوير في إرساء معادلة تقول إن الإيمان والعقل هما شيئان متناقضان لا يلتقيان: فحيث يحضر أحدهما يغيب الآخر. ونجحوا في حصر عمل العقل بالعلوم الطبيعية أعطوها وحدها القدرة على كشف حقيقة الوجود المادي، وفي حصر الإيمان بمجال الظنون والآراء الخاصة التي يرتبط بها الناس من خلال مشاعرهم اللاعقلانية. ونرى اليوم أن كثيرًا من القائمين على الأديان أنفسهم قد قبلوا هذه المعادلة بعد أن ترسخت بمرور الوقت من خلال المناهج التعليمية الحديثة والتقدم المطرد للاكتشافات العلمية والتقنية التي لم تزل تبهر العالم بإنجازاتها الكبيرة”[5].
وقد خضع النظام التعليمي بالجملة لهذه النظرة إلى العقل والإيمان فعزلوا التعليم الديني في حصة دراسية منفصلة عن باقي العلوم الرياضية والطبيعة، وهي عزلة مقصودة من أجل بناء ازدواجية في الشخصية المسلمة فترى الدين على الأقل منعزلًا بصورة – تبدو – طبيعية عن الحياة. ومن ثم تخفف الجدول الدراسي من التعليم الديني فأصبح في ذيل القائمة الدراسية من حيث الكم والكيف والأهمية.
لقد استجابت أنظمتنا التعليمية إلى خلق شخصية لا دينية إما بطريقة مقنعة حيث يقدم الدين بصورة هزيلة غير مقنعة وغير جادة بما يؤثر في التكوين التربوي الأساس للشخصية المسلمة، أو يتم إهماله كلية من قبل المؤسسات التربوية كما يحدث في كثير من الجامعات العربية التي يختفي فيها الدين كلية إلا من الكليات / الجامعات ذات الطابع الديني التقليدي المحض كالأزهر والزيتونة على سبيل المثال.
ومن ناحية أخرى فإن الناشئة ينظرون إلى الداخل الإسلامي بصورة فاحصة تبرز “الدونية” التي تسيطر على نظرة أبنائه إلى أنفسهم أي حالة (هزيمة الأمة المؤمنة) في مقابل (الانتصار والتفوق للبلاد التي تتمركز فيها بؤر الإلحاد العلمي وتنطلق منه).
ومن ثم فإن تطوير الدرس الإيماني المعاصر يلقى عليه عبء أخر وهو كيفية الفصل أو إثبات التباين بين الدين وبين واقع المتدينين به من ناحية، ومن ناحية أخرى يواجه إشكالية بعث الطاقة الإيمانية للدين في نفوس هؤلاء المتدينين ومجتمعاتهم، بهدف تطوير تلك المجتمعات، وميلاد التطورات العلمية والحضارية من بين تلك الطاقة الإيمانية.
من وجوه هذا المبدأ أيضًا -التكامل بين العقل والوجدان، استعادة اللحمة بين الدين والدنيا كما في الجانب الاجتماعي للدين أو آثار التوحيد في حياة الفرد والمجتمع. وكيف أن الدين يقيم في ظله نظم اجتماعية تسعي لتحقيق الأخلاقية الإلهية التي تحفظ الفرد والجماعة من حالات التحلل والانحلال التي شهدتها الحضارة الغربية في ظل ازدهار الاتجاهات المادية في الأخلاق والاجتماع.
إن التربية العقائدية يجب أن توجه العقل الإنساني للاستفادة من مواهبه أو إمكاناته التي منحها الله له في التعرف العلمي عليه من الناحية النظرية والتطبيقية. وهنا يجب تحفيز العقل على ممارسة الاجتهاد في النظر إلى شؤون الدنيا.
في ضوء ذلك فإن التربية العقائدية تهتم بتقديم المعارف الدينية بصورة عقلية: أي ربط إدراك حقائق الوجود عن طريق العقل انطلاقًا من الحث القرآني على ذلك )اُنْظُرُوا( و)سِيرُوا( و) تَعْقِلُونَ( ) فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ(، أي الانطلاق إلى الكتاب المنظور من خلال حفز الكتاب المسطور.
إن المعارف الدينية ينبغي أن تقدم في ضوء العقل، وهنا يمكن استدعاء مبادئ المدرسة العقلية في التراث الإسلامي إلى حدس التربية العقائدية كما عند المعتزلة وابن رشدـ، وتصميم، برامج تربوية تؤكد هذا المنحى في التعامل مع الأصول الإسلامية وتفعيل دور المقاصد كمبدئية أساسية في أصول الشرع وتكليفاته.
إن الدين وطاقة دفعه الإيمانية الجديدة في ضوء تطوير تعليم الدرس الإيماني يهدف إلى تحقيق عدة أهداف ترتبط بثلاثة مجالات رئيسة هي: المجال العقلي –العلمي، المجال الاجتماعي- الأخلاقي، والمجال الوجداني، الاعتقادي. أي محاولة لتفكيك المنظومة التقليدية للدرس العقدي القائم في (المعرفة – الإيمان – السلوك) التي تتسم بالجمود في كثير من جوانبها، وهذا التفكيك بهدف إعادة الإيمان إلى حياة الفرد لتحقيق الاستقامة والراحة والانسجام الذاتي، والعمل على تصميم برنامج لبناء شخصية تستخدم المبادئ العلمية من القرآن الكريم في حل المشكلات وطريقة تفكيرها بصفة عامة، وتصميم برامج علمية بتوجيه القرآن الكريم تناسب مرحلة الطفولة تعتمد على آيات الطبيعة والسير والتجربة.
يتبع إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] محمد عبده: رسالة التوحيد.
[2] محمد فتح الله كولن: أسئلة العصر المحيرة.
[3] المرجع السابق.
[4] المرجع السابق.
[5] سعيد أبو زكي: “العقل دينًا.. قراءة تحليلية في الخطاب القرآني والتراث الإسلامي عن علاقة العقل بالدين والتحقق الروحي”.
* باحث وأكاديمي مصري.