الحلم: بالكسر: العقل، وحلم حلماً: تأنَّى، وسكن عند غضب، أو مكروه مع قدرة، وصفح، وعقل ومن أسماء الله تعالى: (الحليم) وهو الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقداراً، فهو مُـنْـتَهٍ إليه. والحلم: ضبط النفس، والطبع عن هيجان الغضب.) الأصفهاني،ص 129)
والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة، فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقل، ولا تبصر؛ كان على رذيلة، وإن تبلَّد، وضيَّع حقَّه، ورضي بالهضم، والظلم؛ كان على رذيلة، وإن تحلَّى بالحلم مع القدرة، وكان حلمه مع من يستحقه؛ كان على فضيلة.
وهناك ارتباط بين الحلم، وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان، ومقاومة، واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعاً من طبائعها؛ كان ذلك هو الحلم. والله أعلم.( ابن الأثير،1979، ص129)
وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدَّة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ *} [آل عمران: 155] ونلاحظ: أن الآيات التي وصفت الله بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ واقع، أو تفريط في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَآبَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}[فاطر:45].
ونجد أيضاً: أنَّ عدداً من الآيات التي وصفت الله بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ *} [الحج: 59] وهذا يفيد ـ والله أعلم بمراده ـ: أنَّ كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم أركان الحكمة التي هي من أهم ملامح الوسطيَّة.
ومما يؤكد: أنَّ الحلم من أعظم أركان الحكمة ـ التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى الله ـ مدح النبي صلى الله عليه وسلم للحلم وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبُّها الله، قوله للأشجِّ: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة».
وفي رواية الأشجِّ: يا رسول الله! أنا تخلقت بهما، أم الله جبلني عليهما؟ قال: «بل الله جبلك عليهما». قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله، ورسوله!
وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للأشجِّ ما جاء في حديث الوفد: أنهم لما وصلوا المدينة؛ بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقام الأشجُّ عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرَّبه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «تبايعون على أنفسكم وقومكم؟» فقال القوم: نعم، فقال الأشج:ُّ يا رسول الله! إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا؛ كان منا، ومن أبى؛ قاتلناه. قال: «صدقت! إنَّ فيك خصلتين…».( النووي،1929، ج1، ص189)
فالأناة: تربصه حتى ينظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب… ومما يؤكد: أن الحلم من أعظم أركان الحكمة، ودعائمها العظام: أنه خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى الله والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة.
وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم حتى جاءهم نصر الله، وعلى رأسهم إمامهم وسيدهم، وخاتمهم صلى الله عليه وسلم ولم يكن غريباً أن يوجهه الله تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ *وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *}[الأعراف: 199 ـ 200]، {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *}[فصلت: 34]، وقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: 159].
وقد بلغ صلى الله عليه وسلم في حلمه، وعفوه في دعوته إلى الله تعالى الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جدّاً، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 ـ عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبذة شديدة؛ حتى نظرت صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدَّة جبذته، ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء».
وهذا من روائع حلمه صلى الله عليه وسلم وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأس به الدعاة إلى الله، والولاة بعده في حلمه، وخلقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن.
2 ـ وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ: «أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القافلة في وادٍ كثير العِضَاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَفرَّق الناس يستظلُّون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وعلَّق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابيٌّ، فقال: «إن هذا اخترط عليَّ سيفي؛ وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: «الله» (ثلاثاً). ولم يعاقبه، وجلس.
وفي هذا دلالة واضحة على قوة يقينه بالله، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهَّال، وشدة رغبته في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام، ولهذا ذكر: أن هذا الأعرابي رجع إلى قومه، وأسلم، واهتدى به خلق كثير. وهذا ممَّا يؤكد: أن الحلم من أعظم أركان الحكمة، ودعائمها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
علي محمد الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم، مكتبة الصحابة، 1422ه-2001م صص 148-145
ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات، النهاية في غريب الحديث، تحقيق طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناجي، المكتبة العلمية، بيروت. 1399هـ – 1979م
أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
صحيح مسلم بشرح النووي، المطبعة المصرية بالأزهر، الطبعة الأولى، 1347 هـ/ 1929م.