طرح “مصطفى صبري” مجموعة من “الأسس المعرفية” التي تمثل جانباً أساسياً للإصلاح المعرفي عنده، وهذه الأسس هي:
- المفاتيح المنهجية لرؤيته المعرفية: في قراءة تحليلية معرفية عامة باستخدام وحدة تحليل “الكلمة والجملة” نلاحظ أهم المفاتيح المنهجية التي مثلت وحدات الأسس المعرفية للإنتاج الفكري لمصطفى صبري هي: العقل- العلم- العالم- الإيمان بالغيب – الدليل العقلي – المنطق – الدليل الحسي – التجربة – الفلسفة الوضعية – وجود الله – النبوة – المعجزات – القضاء والقدر – علم الكلام – الحكومة الإسلامية – الخلافة – الدين والسياسة – الإلحاد – التغريب-الأخلاق – الإسلام والنصرانية – التشريع الإسلامي والقانون الوضعي. هذه دارت عليها أطروحات “مصطفى صبري” الفكرية ومناقشاته وخطته في الإصلاح المعرفي.
- النظرة الشاملة للإسلام؛ حيث يؤكد أنه ليس عبادة فقط، أو دينا فحسب، بل هو دين ودولة، وشريعة وقانون، وعبادة واجتماع، وعلاقة بالسماء ورابطة في الأرض، وهو ما يناقض المفهوم الغربي للدين الذي حاول المشروع التغريبي نقله إلى العقلية المسلمة؛ لذا تعرض “مصطفى صبري” لبيان المفهوم الشامل للإسلام، لا سيما الاجتماعي والسياسي والمدني في أكثر من موضع، واستدعاه في أكثر من قضية فكرية باعتبار مبدأ “الإسلام الشامل” هو الأساس في المشروع الحضاري الإسلامي.
- المنطلق المعرفي – الثقافي في الإصلاح في ميدان السياسة؛ حيث أرجع “مصطفى صبري” الخلل في الإعجاب بالغرب وتقليده في السياسة إلى الخلل في التكوين الثقافي “فالمسألة السياسية ترجع أساساً إلى خلل ثقافي يجب أن يبدأ الإصلاح منها. فالإصلاح الثقافي أصل الإصلاح السياسي، لهذا رتب الشيخ الأولويات في بداية عهده بمدافعة العمل السياسي الأعوج الذي يُراد فرضه على البيئة العثمانية الجديدة، لكن لما يئس من نجاح محاولات الإصلاح السياسي المباشر بطريق الحوار والمطارحة الفكرية.. مال إلى طريق الإصلاح العلمي بالتأليف والنصح المستمر للمسلمين وعلمائهم، مؤكداً أن مشكلتنا ثقافية بالدرجة الأولى ويجب تعهدها بالإصلاح. ([1])
وفي هذا الاتجاه – أيضاً – حذر من استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية (التي كانت تكتب بها اللغة التركية) حيث رأى في ذلك تهديداً للهوية الإسلامية والتاريخ الإسلامي بما يضر الشخصية التركية المسلمة التي تنشأ في ضوء هذا التبدل منقطعة الصلة عن ثقافتها وتاريخها الإسلامي، “ولير الترك الحديث من أراد أن يرى قوماً لا تاريخ لهم”([2]).
حذر من استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية ورأى في ذلك تهديداً للهوية الإسلامية والتاريخ الإسلامي
- التحرر في الحصول على المعرفة الدينية: أكد مصطفى صبري على ضرورة تحرير العقل المسلم لا سيما فيما يتعلق بالمعرفة الدينية، وترك التقليد للغرب وللعقل المسيحي في منهجية الحصول على المعرفة الدينية، لتباين غاية المنهجين الغربي والتوحيدي، ورأى ذلك الاستقلال المنهجي أهم من السياسي “وأن نترك التقليد في العقلية الدينية…، فنملك استقلالنا في العقيدة التي هي أساس الأعمال الصالحة والتي استقلالها يتقدم على الاستقلال السياسي للأمم الإسلامية “ ([3]).
- ربط العلم بالعمل (أو العقيدة بالتطبيق) “إذ العمل مبني على العقيدة التي لا يتعب بها الإنسان أصلاً بعد استيقانها بعقله وفهمه؛ بل تكون له منها قوة ينشرح بها صدره ويستعين على القيام بالناحية العملية التي ليست في سهولة الناحية الاعتقادية لانطوائها على تكاليف وتضحيات وبانضمام العمل إلى العقيدة يحصل الكمال في الإسلام وينتفع المسلم العامل بدينه في الدنيا قبل أن ينتفع به في الآخرة ” ([4]).
- المنهج النقدي: استخدم “مصطفى صبري” المنهج النقدي لأفكار حركات واتجاهات التجديد، حيث لم يستجب لمناهج هذه الأفكار وتصوراتها حول الأزمة الحضارية وطرق معالجتها، بل اعتبرها ناقلة ومحققة لأهداف المشروع التغريبي من خلال هذا التجديد، ويمكن تفسير مواقفه ضد هذه الحركات بأن “التجديد في القرن العشرين كان بمثابة إجابة عن سؤال لم تطرحه التربة الإسلامية، وهذا ما دعا الكثيرين داخل الحقل الإسلامي التقليدي إلى التشكك فيه والخوف من نتائجه واتهام دعاته” ([5]).
ونفى “مصطفى صبري” أن تكون حركات التجديد الموجودة هي المقصودة في حديث النبي r “إن الله يبعث لهذه الأمة رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” كون المعنى الذي يقصده العصريون من التجديد لا يتحد مع التجديد المذكور في الحديث – إن الإسلام لم يمدح التجديد في الدين قدر ما ذم البدعة فيه وحذر منها “كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”. على أن أكثر ما رأينا من التجديد فإنما العامل فيه التقليد وكم فرق بين التقليد والتجديد”. ([6]) وقد سمَّى أصحاب هذا الاتجاه في كتاباته بـ”الطائفة العصرية” و”المتفرنجون” و”المجددون” و”العصريون”، وبناء على هذا النهج انتقد الشيخ بشدة التفسيرات “العلمية” التي قدمت من أصحاب هذا التيار لبعض العقائد الدينية كما جاء عند محمد فريد وجدي في “السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة”.
رأى أن المسلمين أنفسهم في حاجة إلى الإصلاح وأساس مرضهم ضعف القلب الناشئ من ضعف الدين
- الإسلام لا يحتاج إلى إصلاح، ولكن المسلمين أنفسهم هم الذين في حاجة إلى الإصلاح، أما طبيعة هذا الإصلاح للمسلمين الذين هم في حاجة إليه فشخَّصه في البعد التربوي والنفسي الذي يفتقده المسلمون اليوم.” إن المسلمين أنفسهم في حاجة إلى الإصلاح وأساس مرضهم ضعف القلب الناشئ من ضعف الدين فيجب على طبيبهم الذى يتعهد مداواتهم أن لا يسلك عكس طريقها ويزيد في إضعافه، بل يسعى لإحياء عزة النفس الإسلامية في قلوبهم، فينبغي للمسلم أن يرى ملته فوق كل ملة ويتشدد في اجتناب تقاليد تعد علامة أنه يرجح غير ملته عليها بأن يتشبه بغير المسلمين… وما إلى ذلك مما يتضمن إكبارهم واستصغار الإسلام، ضربة مهينة أيما إهانة على عزة النفس الإسلامية، واستخفوا بمحذور هذا التقليد تحت تأثير قول المتفرنجين “لا يلزم شيء من تبديل الأزياء” ([7]).
- النظر إلى المفاهيم المستوردة في ضوء سياقاتها الاجتماعية والثقافية، ومما أشار إليه في هذا الصدد مفهوم “العلـم” بمعناه الغربي في العصر الحديث والذي اقتصر في منهجه ومضمونه على الجانب الحسي المادي أو ما ثبت بالتجربة الحسية. وأكد مصطفى صبري على اختلاف وتباين مفهوم “العلم” في الثقافة الغربية وفي الثقافة الإسلامية.
- المنطق مقياس الحكم على الظواهر: يؤكد مصطفى صبري في غير موضع أن القضايا التي لا يقبلها المنطق لا تكون علمية، فكيف تتسم بالعلمية وهي غير منطقية، وهذا ما أرادت الفلسفة المادية تغييره حيث تؤكد أن لا معقول غير محسوس بينما ينحاز للدليل المنطقي الذي يستنبط دون أن يكون هناك محسوسات، لذلك فهو يرى “إبطال العلم المخالف للمنطق الذي وضعه العقلاء لتمييز صحيح الفكر من سقيمة” ([8]).
- إحياء علم الكلام لحاجة المسلمين إليه، واستحداث مباحث جديدة في ضوء القضايا الفكرية التي أثارتها الفلسفات الغربية، لا سيما ما يتعلق بأحادية مفهوم العلم “بمعناه” التجريبي” “الحسي” وما نشأ عنه من هيمنة للفلسفة الوضعية وسيادتها على العقل الغربي والمتغربين في العالم الإسلامي.
ويتساءل حول ضرورة إحياء علم الكلام بقوله “فهل للخلف من المسلمين بعد اتصالهم بفلسفة الغرب كسب للإسلام يستحق أن يسمى علماً مدوناً يستطيع أن يصارع به حتى نفس تلك الفلسفة كما استطاع السلف مصارعة فلسفة اليونان في علم الكلام، حتى ولا شعبة من العلم المدون أو مسألة واحدة من المسائل العلمية تكون سلاحاً في أيدينا ندافع به عن ديننا عند الحاجة أو نصل إلى حقيقة من الحقائق العالية؟”([9]). كما أنه اعتبر رواج علم الكلام مؤشر لقوة الإسلام.
القضايا التي لا يقبلها المنطق لا تكون علمية، فكيف تتسم بالعلمية وهي غير منطقية
- المطارحات الفكرية للآراء والأفكار والنظريات الفلسفية، اتسمت كتابات مصطفى صبري باستخدام أسلوب المحاورة والجدل الفكري للأفكار والنظريات الفلسفية لا سيما تلك التي اختلف معها وأفرد لها صفحات طويلة من كتاباته بنقلها بنص قائلها دون تحريف فيها، ثم يعقبها بالتعليق عليها مفنداً لما تتضمنه من آراء وأفكار تتباين مع منهجه الفكري. ومن المفكرين والفلاسفة الذين طرح أفكارهم للجدل: من الغرب ديفيد هيوم – سبنسر – أوجست كونت – دارون ومن الشرق: فرح أنطون، محمد فريد وجدي، محمد حسين هيكل، زكى مبارك، أحمد أمين، شبلي شميل، على عبد الرازق.
- المنهج المقارن: استخدم “مصطفى صبري” هذا المنهج فيما عقده من مناقشات لموضوعات متباينة مثل: الإسلام والنصرانية، الدليل العقلي والدليل التجريبي، التشريع الإسلامي والقانون الوضعي، المرأة في الإسلام وفي المدنية الحديثة، التقليد الجائز والمحرم، الخلافة والوراثة، العلم بالمفهوم الغربي والمفهوم الإسلامي، مفهوم “الدين” في الغرب والإسلام، الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية الغربية، …الخ. وقد أعطت هذه المقارنات قوة لكتاباته وتنقية للمفاهيم الإسلامية وبناء تصور فكرى واضح عن هذه القضايا والموضوعات المختلفة، من خلال إبراز أوجه التباين والاختلافات التي أظهرتها هذه المقارنات الفكرية.
- الاستفادة والانفتاح على الفكر الإنساني بما يلائم الفكرة الإسلامية ولا يتعارض معها، لا سيما علم المنطق، وقد عاب على بعض السلف تحريم علم المنطق ويشير إلى ذلك بقوله: “وإني أرى هذا التعييب وذاك التحريم نفسهما عيباً يجب تنزيه الإسلام الذي يباهي بكونه دين العقل عن مثله… فإذا كان في الفلسفة ما يؤيد الدين أو المذهب الحق في الدين فلا لوم على عالم كلامي إذا ذكرهما في الكلام استظهاراً به لدينه أو مذهبه”([10]).
يتبع إن شاء الله
([1])عمار جيدل: “رائد الفكر الإسلامي الحديث: شيخ الإسلام مصطفى صبري”، مجلة حـراء، العدد الخامس، 2006م.
([2]) مصطفى صبري: موقف العقل والعلم، جـ4، ص346.
([3]) المرجع السابق، جـ1، ص13.
([5])رضوان جودت زيادة: سؤال التجديد في الخطاب الإسلامي المعاصر، ص46.
([6])مصطفى صبري: موقف البشر تحت سلطان القدر، ص7.