في المحرم ترتفع وتيرة التذكير بفضائل الصحابة ولمز من ينتقصهم تصريحاً أو تلميحاً، تساءلت عن هذه المعركة المتكررة سنوياً أو كلما عرض عارض: ما جدواها على المسلم؟ ما مقصود من يشعلونها أو يكونون وقوداً لها؟ هل يقصدون ذم أولئك الذين يذمون وبيان أنهم على خطأ وضلالة ثم تنام الأعين قريرة فقد أدت واجبها نحو الصحابة والإسلام؟!
إننا نسمع الخطيب في كل جمعة يقول: اللهم صلِّ على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وارضَ اللهم عن صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فمن هؤلاء الذين تبعوهم بإحسان واستحقوا أن يدخلوا في زمرة هذا الدعاء؟
ولنسأل أنفسنا قبلاً: بأي شيء استحق الصحابة أن ينالوا هذا الشرف فيذكرون باستمرار في مشارق الأرض ومغاربها ونتسمى بأسمائهم ونتدارس مواقفهم ونتخذهم قدوة في حياتنا ونقدمهم لأبنائنا وللعالم على أنهم خير الناس؟
لقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حبهم علامة على الإيمان فقال: “آية الإيمان حب الأنصار” (صحيح البخاري)، فكيف يكون حب بعض البشر علامة على الإيمان بالله تعالى نحبهم لأنهم نصروا الله ورسوله وقدموا ما يملكون ابتغاء مرضاة الله تعالى وفتحوا قلبوهم قبل بيوتهم لمن آمن بالله ورسوله؟
إنهم استحقوا هذه المكانة في قلوبنا بما قدموا من أعمال ودلائل على صدق إيمانهم ومتابعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ودفعوا أثماناً باهظة للبقاء على الإيمان، وتحملوا كل ذلك بنفس راضية راجية لما عند الله تعالى من خير.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك شيئاً من الدنيا يرغبهم به، أو يملك سلطة يرهبهم بها، ومع ذلك اتبعوه وثبتوا على ذلك.
امتلأت قلوبهم بحب الله ورسوله واليقين فيما عنده، واطلع الله تعالى على هذه القلوب الطاهرة النقية كما قال جل جلاله، فعلم ما في قلوبهم؛ لذلك كانت المنح الربانية تحيط بهم من كل جانب، فكان الجزاء المعجل أن أنزل الله تعالى السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً.
لم يكن إيمانهم نظرياً فقط يحفظون أركان الإيمان وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتصل بذات الله تعالى وصفاته وما يجب وما يجوز وما يستحيل في حقه تعالى فحسب، بل ترجموا إيمانهم إلى مواقف وسلوك، عندما يسأل النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه: “ما أبقيت لأهلك؟”، فيجيبه رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله (سنن أبي داود)، وكفى بالله ورسوله عندما يسأل أحدنا نفسه: ما أبقيت لأهلك؟ يرد على الخاطر ما يملك من أموال وعقار واستثمارات من حلال أم حرام؟ والواجب على المسلم أن يذر ورثته أغنياء بالحلال، لكن هل يرد على باله أن يترك أيضاً قربة قدمها بإخلاص لله فيثيبه الله تعالى عليها في الدنيا والآخرة ويحفظ أولاده من بعده؟ هل ورد على خاطره أن يحفظ الله تعالى فيحفظه في أهله وماله وولده وذريته؟ هل ترك لهم نصائح تقربهم من الله وتحذرهم من بأسه وبطشه؟ هل سول له الشيطان أن يغنيهم بالحرام حتى لا تسود وجوههم بالمذلة ولا تمتد أيديهم بالسؤال للناس وغفل عن حقيقة كبيرة أن الأموال الحرام أول ما يجلب الذل والصغار، وأن الأموال الحرام تفسد البيوت والقلوب وتسحب السعادة منها، وأفضل ما يبقيه الرجل لأهله: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم؟
كانوا صادقين مع أنفسهم ومع ربهم، يخطئون فهم بشر، لكنهم يبادرون بالاعتراف بالذنب والندم عليه والحرص على التطهر منه، تقع إحداهن في الزنى وتأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقول له: طهرني؛ فيقيم عليها النبي صلى الله عليه وسلم الحد ويقول: “لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم” (صحيح مسلم)، إن البعض يخطأ ويجرم ويرتكب القبائح والفساد الذي يضر بالعباد دون أن يرف له جفن أو يشعر بأنه أخطأ وأساء وظلم، وإذا وقع تحت طائلة العقاب أسرع إلى التهرب والإنكار، لكن هذه المرأة تعترف بمحض إرادتها وتسعى إلى إيقاع العقاب بها رغبة في استكمال التوبة النصوح.
وأخرى تضرب مثالاً في الصبر والجلد لتعلم كل امرأة أصيبت بمصيبة كيف تتعامل معها، توفي صغيرها فغسلته بيديها وكفنته ووضعت في جانب غرفتها، باتت ليلتها مع زوجها بعد أن تهيأت له كأحسن ما تتهيأ امرأة لزوجها، ولما أصبح أخبرته بالخبر الأليم حزن وغضب وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره، فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة في ليلته الماضية ينجب ولداً يزرقه الله 7 أولاد كلهم يحفظون القرآن، أي صبر كانت تحمله هذه المرأة لتتحمل كل هذه الآلام ثم تتجمل لزوجها بعد أن صعدت روح ابنها إلى بارئها؟! ولكنه النموذج الذي ينبغي أن نحتذي به، إننا نقدم هذه الصورة لمن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتأمل كل امرأة ورجل فيما نزل به من بلاء وتقارنه بما نزل بهذه الصحابية رضوان الله عليها، لنجد أين نحن من هذه القمم إن كنا نحبهم ونظن أننا ندافع عنهم.
وهذه أسماء بنت أبي بكر كانت لزوجها نعم الزوجة الصالحة، تخدمه وتجلب الماء والنوى لفرس الزبير وتطحنه فتؤدي واجبها نحو ربها ونحو بيتها، لم يدر هذا الجدل البيزنطي برأسها هل يجب على المرأة أن تخدم زوجها؟ وهل تستحق على ذلك أجراً؟ إن أسماء رضي الله عنها قطعت على هؤلاء الطريق حين خدمت فرس زوجها كما خدمته، لقد كانت تعلم مهمتها في البيت الذي تظلله السكينة والحب، فيقوم كل فرد فيه بما يستطيع حتى لو لم يجب عليه، يؤديه بحب دون منّ ولا أذى، ويقابل ذلك الشكر والعرفان من الجانب الآخر.
كان الصحابة رضي الله عنهم يحملون نفوساً سمحة فياضة بالخير، ترى أن قوة إخوانها من قوتها، وغنى أصحابها من غناها، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ولا يهدم بعضه بعضاً، ولا يسمح لعدو أو منافق أن يقترب من بنيان بنته يد مسلم، كان هذا المعنى واضحاً في ذهن الأنصار رضي الله عنهم، فقال أحدهم لأخيه المهاجر: هذا مالي تعالَ أقسمه بيني وبينك نصفين، في نظرنا المال إذا اقتسمناه نقص، في نظر الشرع المال يزداد بالتقسيم وبالحب وبالتعاون.
مدح الله تعالى الأنصار حين قال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)، قلوب نظيفة وأعمال شريفة يحبون من هاجر إليهم رغم أنهم سينافسونهم في طلب الرزق، والموارد محدودة.
إن إيمان هؤلاء النفر كان إيماناً خالصاً، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك شيئاً من الدنيا ليعطيهم مقابل إيمانهم وتضحياتهم، ولكنهم أحبوا الله ورسوله من كل قلوبهم، فكانت الأفعال التي تتعجب منها الأجيال التي لا تخرج إلا من الصادقين.
إن تذكر أمجاد الصحابة لا يرفع من مقامهم، فقد اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه وكفى بذلك شرفاً، وقد مدحهم نبيه صلى الله عليه وسلم وقد طوقوا أعناق البشرية كلها حين حملوا هداية الإسلام ورايته ودعوته وانطلقوا بها في كل مكان لكي يعرّفوا الناس بربهم، لكننا نتذكرهم لنقتدي بهم لنكون من المفلحين؛ {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157)، يتذكر كل عمر أخلاق عمر، وكل من أبو بكر أخلاق الصديق، وكل عليّ أخلاق عليّ، نتذكر أخلاقهم وأعمالهم وحبهم لله ورسوله فيكون لنا نصيب في أخلاقهم في الدنيا وصحبتهم في الجنة.