اتهام جبهة تحرير تيغراي لإريتريا بالتدخل عسكرياً ضدها في حربها مع الجيش الإثيوبي مؤشر على أن القتال بالإقليم المتمرد شمالاً في طريقه للتمدد ليشمل أقاليم أخرى وفاعلين دوليين.
فإريتريا سبق لها وأن قدمت الدعم العسكري المباشر للحكومة الإثيوبية في عام 2020، بما سمح لها بمحاصرة إقليم تيغراي المتمرد من الشمال والجنوب قبل أن تقطع عليه الطريق غرباً عندما سيطر الجيش الإثيوبي على الحدود مع السودان، وأطبق بعدها على عاصمة الإقليم ميقلي.
إلا أن خلافات بين أسمرة وأديس أبابا دفعت إريتريا إلى اتخاذ موقف الحياد، خاصة بعد تعرض بعض قادتها لعقوبات أمريكية، وسمح ذلك لمتمردي تيغراي بالزحف جنوباً نحو العاصمة الإثيوبية، بعد أن أسقطوا في طريقهم عدة مدن إستراتيجية في إقليم أمهرة على غرار والديا، ولاليبيلا (التاريخية والمقدسة لدى المسيحيين) وديسي، وكامبولشا.
لذلك يبدو من الغريب عودة إريتريا لدعم حكومة آبي أحمد، رغم العقوبات الأمريكية، ومخاطر تمدد النزاع ليتحول من حرب أهلية إلى صراع إقليمي ودولي.
معركة حميرة
لم يتدخل الجيش الإريتري في القتال إلا بعد تقدم متمردي جبهة تيغراي نحو غرب الإقليم الخاضع لسيطرة الجيش الإثيوبي، بهدف كسر الحصار المفروض عليه والوصول إلى الحدود السودانية، للحصول على المساعدات الإنسانية من المنظمات الدولية دون انتظار إذن أديس أبابا.
فإقليم تيغراي الذي كان عدد سكانه يبلغ نحو 7 ملايين نسمة، لم يعد يقطن به سوى نحو 5.5 ملايين نسمة، بعد نزوح مئات الآلاف من أبنائه نحو الأقاليم المجاورة أو إلى السودان وإريتريا، بحسب تقارير أممية، ناهيك عن الذين قتلوا خلال الحرب أو ماتوا جوعاً.
فالمجاعة تطرق أبواب الإقليم بشدة، وجبهة تيغراي ليس لها من خيار سوى قطع الطريق الدولي الذي يربط أديس أبابا بميناء جيبوتي أو موانئ إريتريا، أو السيطرة على المنطقة الغربية للإقليم والوصول إلى الحدود الدولية مع السودان للحصول على المساعدات الإنسانية والعسكرية إن أمكن.
وسبق أن حاولت جبهة تيغراي قطع الطريق الدولي وخط السكك الحديدية المؤدية إلى موانئ جيبوتي وإريتريا، لكنها أخفقت، رغم تقدمها العميق جنوباً، في فبراير الماضي.
وتحاول جبهة تيغراي مجدداً فتح الجبهة الجنوبية عبر إقليمي أمهرة والعفر، وحققت بعض التقدم بعد سيطرتها على بلدة “قبو” شمال شرقي أمهرة (غرب)، وتقدمها جنوباً نحو مدينة والديا.
لكنها وبشكل مفاجئ شنت هجوماً مباغتاً على الجبهة الغربية نحو مدينة حُميرا، الواقعة غربي تيغراي، على المثلث الحدودي بين إثيوبيا والسودان وإريتريا، في الأول من سبتمبر الجاري.
وجاءت وكالة “بلومبيرغ” برواية مختلفة عن الهجوم على حميرا، المدينة الإستراتيجية والمفتاحية بالنسبة لإثيوبيا وإريتريا وجبهة تحرير تيغراي، حيث تحدثت عن رفض مئات الضبوط والجنود الإثيوبيين من أصول تيغراوية العاملين ضمن قوات حفظ السلام الأممية في منطقة آبيي، المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان، العودة إلى بلادهم.
واستندت الوكالة في هذا الخبر إلى 5 مصادر لم تسمهم، ونقلت عنهم، أن هؤلاء الجنود تقدموا بطلب لجوء في السودان، في وقت سابق من هذا العام، وانتقلوا مؤخرًا بالقرب من حميرة للمشاركة في الحرب إلى جانب أبناء جلدتهم، وانضم للوحدة عدد من الأشخاص الذين فروا من القتال أثناء الحرب وبعض سكان غرب تيغراي.
وأكد جيتاشيو رضا، عضو اللجنة التنفيذية لجبهة تحرير تيغري، أن قوات حفظ السلام السابقة دخلت غرب تيغراي، بينما نفى العميد نبيل عبد الله، المتحدث باسم القوات السودانية وجود أي وحدة من قوات التيغراي أو قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة السابقة في بلاده، بينما لم تعلق السلطات الإثيوبية بحسب “بلومبيرغ”.
قلق من انتقام التيغراي
بغض النظر عن خلافات أسمرا وأديس أبابا، إلا أن التيغراي يمثلون العدو الأكبر للإريتريين، الذين لن ينسوا حربهم ضد إثيوبيا عندما كان التيغراي على رأسها، لذلك ليس من مصلحتهم عودة التيغراي مجدداً إلى الحكم.
وتحرك التيغراي غرباً نحو مدينة حميرة يعني إمكانية تدفق مختلف الدعم اللوجيستي والعسكري وحتى البشري من اللاجئين التيغراويين الذين فروا إلى السودان، ومن الدول التي لها مصلحة في إشغال إثيوبيا بمشكلاتها الداخلية.
وما يقلق أسمرا إعلان جبهة تيغراي، في 8 مايو الماضي، بأنها ستنشئ جيشاً يضم مليون مقاتل، وهو رقم ضخم، بالنسبة لعرقية لا يتجاوز عدد أفرادها 7 ملايين نسمة، ما يعني أنها ستلجأ للتعبئة العامة لكل تيغراوي قادر على حمل السلاح.
ففي كل أفريقيا لا توجد أي دولة (بما فيها نيجيريا وإثيوبيا ومصر) تملك جيشاً يبلغ تعداده مليون مقاتل.
وكان هذا الإعلان أول مؤشر على أن التيغراي يستعدون لكسر الهدنة التي صمدت 5 أشهر، لكن جيشاً بهذا التعداد (وإن كان مبالغاً فيه) من شأنه تهديد ليس فقط حكومة آبي أحمد، بل إريتريا أيضاً، خاصة إذا تلقى دعماً خارجياً.
وتحاول أديس أبابا توجيه أصابع الاتهام نحو مصر والسودان، وبدا ذلك جلياً عندما أعلنت، في 24 أغسطس الماضي، إسقاطها طائرة محملة بالسلاح في حميرة، كانت قادمة من الأجواء السودانية ومتجهة إلى تيغراي، وهو ما نفته الخرطوم بشدة.
فالخلاف السوداني الإثيوبي يتعمق حول أكثر من ملف على غرار سيطرة مليشيات أمهرية على أراضي الفشقة السودانية، وإعدام جنود سودانيين في إثيوبيا، وأزمة “سد النهضة”.
ناهيك عن دور السودان التاريخي في دعم حركات التمرد في كل من إثيوبيا وإريتريا، رداً على دعم البلدين في فترات سابقة للمعارضة المسلحة لنظام البشير (1989-2019).
لكن السودان حالياً منشغل بمشكلاته الداخلية الكثيرة ولا يرغب في مواجهة مباشرة مع إثيوبيا، إلا أن ذلك لا يمنعه من ممارسة دور إقليمي في المنطقة بدعم مصري.
وهذا ما تخشاه كل من إثيوبيا وإريتريا، ما يجعل تحالفهما ضرورياً لمنع التيغراي من الوصول إلى الحدود السودانية.
وهذا ما يفسر زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، رفقة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، لجوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، في 6 مارس الماضي.
فما يجمع الدول الثلاث أنهم يشتركون مع السودان بحدود طويلة، وعقود من النزاعات والصراعات.
فالتدخل العسكري الإريتري في شمال تيغراي يهدف بالأساس لمنع تغول متمردي الإقليم، خاصة مع وجود نزاع حدودي بين الطرفين حول مدينة بادم، التي بسببها اندلعت حرب عام 1998.
وليس من المستبعد أن تسعى كل من إثيوبيا وإريتريا لتكرار نفس سيناريو نوفمبر 2020، عندما أطبقوا على الإقليم كفكي كماشة، ودخلوا مقلي، عاصمة الإقليم، ووأد التمرد في معقله.
غير أن امتلاك جبهة تيغراي لمئات آلاف المقاتلين المدربين وأسلحة ثقيلة غنموها من استلائهم على مدن ومعسكرات الجيش الإثيوبي في الجولة السابقة من القتال، ناهيك عن تخزينهم لكميات مهمة من الأسلحة في الإقليم خلال عقود من سيطرتهم على الحكم، يجعل مهمة القضاء على تمردهم مسألة صعبة وقد تطول وتستنزف قدرات إثيوبيا وحتى إريتريا إن رمت بكامل ثقلها في الحرب.
غير أن الدعم الذي يحظى به آبي أحمد من عدة دول وخاصة روسيا والصين وإيران والإمارات، وتسيده سماء المعركة وإطباقه الحصار على الإقليم المتمرد، من شأنه التعجيل بسيطرة الجيش الإثيوبي على ميقلي، والمدن الرئيسة، ومع ذلك ستكون البلاد بحاجة لعملية سياسية لاحتواء التمرد.