لقد تناول كثير من العلماء دور الإمام القرضاوي وجهوده المتنوعة في جميع الميادين، وخرجت رسائل علمية في هذا الشأن تحمل هذا الجهد في دائرة العرض والنقد، وكان من أواخر الكاتبين عنه في هذا المجال د. محمد سليم العوا في بحثه الموسوم «جهود الدكتور يوسف القرضاوي في خدمة السُّنة النبوية».
لكني أردت بهذا المقال أن أعمق فكر القارئ الشغوف بمعرفة كنوز الشيخ الإمام، وأفتح للباحثين المتخصصين نوافذ النور في شخصية العلامة المحدث، نعم المحدث؛ فالشيخ وإن عرف بنبوغه وعبقريته العلمية في كثير من الميادين والفنون وعلى رأسها الفقه والأصول والدعوة والتربية والحركة والعمل الإسلامي؛ فإنه لا بد أن يُعَرّف كذلك بنبوغه في الحديث ومعرفته العميقة به وبقواعده، وليس هذا ادعاء أو تقولاً؛ فمن قرأ له بإنصاف علم ذلك وفطن له، وأُبرز ذلك في النقاط الآتية:
أولاً: نظرته للسُّنة النبوية: فهي نظرة شاملة متكاملة يرى فيها السُّنة نور الوحي الهادي من الظلمة، وأجوبة المسلم الباحث عن الحل في معضلات الأمور، وعالمية التبليغ والصلاحية لجميل ما تحمل من موضوعات وتوجيهات وأساليب.
وهذه النظرة تعكس قضيتين مهمتين تتعلقان بالإمام المحدث؛ أولاهما: إيمانه العميق بالسُّنة النبوية كمصدر أصلي من مصادر الوحي لا يعرف الإنسان دينه ولا يكتسب علمه الشرعي ولا يسير في حياته بصلاح ونور إلا من خلالها جنباً مع القرآن الكريم.
وثانيتهما: تعكس اهتمامه وانشغاله الكبير بالعمل بها ونشرها والذب عنها، وهذا يظهر بجلاء ووضوح في كتاباته وحواراته العلمية والدعوية، ولا أقصد هنا الحوار والكتابة السردية المجردة من مشاعر صاحبها كما نراها عند البعض، ولا المتشدقة الفخورة بميدان إظهار السبق، وإنما كتابة المحب المتعلق بدينه المتلمس لنَفَسِ نبيه وفهمه المؤمن بحلولها، ولذا تستشعر حرارة قلبه قبل قلمه وهو يكتب عنها أو يستشهد بها، وانظر إلى كلامه عن منزلة السُّنة في الإسلام في كتابه «كيف نتعامل مع السُّنة النبوية» تدرك بوضوح هذا الأمر.
ثانياً: خدمته للسُّنة والحديث النبوي: فالإمام، رحمه الله تعالى، في هذا الجانب له سمت خاص وتفرد ملحوظ، فإن عادته التي ألفناها في كتابته ومؤلفاته ألا يثقل كاهل المكتبة الإسلامية بما كتب وسبق فيه التأليف، وإنما يكتب الجديد النافع الذي يضاف إلى المكتبة الإسلامية فيثريها ويكمل سلسلة المؤلفات فيها، والعبرة دائماً في منهجه بالكيف لا بالكم، والطرح الجديد لا بتكرار القديم، وما مشاريعه في هذا الصدد -ومنها: كتابه «نحو موسوعة للحديث الصحيح مشروع منهج مقترح» الذي كان في بدايات ثمانينيات القرن الماضي- إلا إلهام لكثير من المؤسسات العلمية والنشرية لإنتاج باكورة هذا الأمر بصورة عمل حاسوبي أو كتب مؤلفة.
وكذا كتاباته الأخرى في السُّنة النبوية؛ منها: «المدخل لدراسة السُّنة النبوية»، «كيف نتعامل مع السُّنة النبوية؟ معالم وضوابط»، «السُّنة مصدراً للمعرفة والحضارة»، «الجانب التشريعي في السُّنة النبوية»، «المنتقى من الترغيب والترهيب»، «الرسول والعلم».. وغيرها، وكل كتاب يبرز بإبداع لا نظير له، وإضافة حقيقية للمكتبة الإسلامية فيما يخدم السُّنة النبوية، ثم النزول بعد ذلك إلى أرض التطبيق العملي الذي عرف به واشتهرت به حياته، فأسهم في إنشاء مركز بحوث السيرة والسُّنة النبوية في قطر الذي اهتم بنوعية ما يخرجه عمقاً وكيفاً لا سطحياً وكثرة، فقدم بهذا خدمة متميزة لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم تليق بها وتبرز جمالها في أبحاث نافعة يافعة مثمرة.
ثالثاً: معالم شخصيته وملكته الحديثية: تبرز ملكة د. القرضاوي الحديثية في مؤلفاته الكثيرة التي قاربت المائتين؛ فما من كتاب له إلا ونصيب السُّنة منه دراية ورواية كبير وعظيم ودورها في طرحه أصيل، ما يظهر من خلال ذلك ملكة علمية حديثية دراية ورواية، أسطرها في النقاط التالية:
1- ما يتعلق بملكته الحديثية دراية:
– استشهاده الرائع العميق بالسُّنة النبوية في جميع ميادين علمه وعطائه الكتابي والبثِّي.
– الجمع بين الفكرة المطروحة والتأصيل المؤيد، فما من فكرة يقدمها إلا مؤصلة من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
– استيعابه الملحوظ لغالب السُّنة المدونة مطبوعة أو مخطوطة؛ فهو يطوف بك بين المرفوع والموقوف والمقطوع بين الحديث والأثر ما كان مطبوعاً وما كان في دائرة المخطوط، والذي يطالع موارد كتابه ورسالته «فقه الزكاة» وغيره سيقف على روايات كثيرة اعتمدها وأخرجها من بطون مخطوطات لم تكن خرجت لدائرة الطبع، وكحّل العلماء بها أعينهم خاصة كتب الخراج والأموال.
– إلمامه بالطرق والروايات للحديث الواحد الذي يؤكد عدم المرور السريع أو الناقص للحديث دون جمع طرقه وروية النظر فيه.
– إلمامه الكامل بقواعد علوم الحديث الشريف من مصطلح الحديث والجرح والتعديل ومناهج المحدثين، وغيرها ما يرسخ قدمه في العرض الحديثي ويدعم رأيه من خلال هذا الإلمام والإدراك.
– اختياره للرواية التي تدعم موطن كلامه واستشهاده ما يؤكد ملكة الانتخاب والترجيح والتحقيق عنده، رحمه الله تعالى.
– انتقائية الشرح للحديث المتكلم عنه بين الشراح ما يجعل إلمامه بما كتب حوله وما سطر عنه حاضراً بقوة بين يدي الشيخ؛ فتراه ينقل مرة كلام الحافظ ابن حجر، وأخرى يستشهد بالبدر العيني، وثالثة بالنووي، ورابعة بالقرطبي، وخامسة بابن بطال.. وغيرهم؛ ما يجعله قد وصل لمرحلة كبيرة من الاستيعاب الذي سطره العلماء حول الحديث الواحد.
– نقاشه أحياناً لبعض هؤلاء الشراح في فكرتهم وانتقاده لطرحهم، بل وأحياناً يرد عنهم ما ليس من كلامهم لدربته وخبرته بتوجهاتهم ومعرفة مناهجهم؛ ما يجعل القارئ في دهشة من عرضه ونفاذ بصيرته في هذا الصدد.
– الجمع بين قراءة الحديث من منظور المحدث ومنظور الفقيه والأصولي وبطبيعة الحال؛ فالإمام يستحضر ما قعّده العلماء جميعاً بين يديه فتخرج قراءته للحديث لوجود هذه العلوم مجتمعة بين يديه مختلفة عن غيره، وعميقة في الفهم ممن لا يحسن غير فن أو تغيب بين يديه قواعد الفنون الأخرى.
– فهمه وهضمه لقواعد فهم السُّنة وكيفية التعامل معها، وقد سطر مؤلفاً في ذلك ما يجعل درايته بالحديث منبثقة من هذه القواعد والضوابط التي تدل على منهجه المؤمن به اعتدالاً ووسطية وتوجيهاً.
– إبصار الوحدة الموضوعية للحديث التي تؤكد أصول الإسلام ولا تتعارض بين توجيهاته ما يدفع بالشواهد والمتابعات الحديثية حول فكرة الحديث والموضوع المنبثق منها في كتابته.
– إدراكه الكامل لمقاصد السُّنة النبوية، من ذلك ما سطره في كتابه «مدخل لدراسة السُّنة النبوية» باعتبار السُّنة مصدراً للاحتكام والفتوى، ومصدراً لتوجيه السلوك الإنساني، ورسماً لمنهج تفصيلي للحياة الإسلامية، وغير ذلك مما يبرز في كتابته الحديثية ويؤكد سلامة المنطلق والختام.
– نبوغه في الأحاديث المشكلة والمختلفة التي ظاهرها التعارض وكيفية الجمع والترجيح فيها، وهو باب عظيم قلَّ من تحدث فيه لفقدانه الجمع بين الحديث والفقه والأصول.
– طرحه لرأيه وفهمه في الحديث الذي ربما لم يسبق إليه، والذي يكون عنده من مجموع ما سبق من أمور تتعلق بنظرته العميقة في متون الأحاديث بعد جمعها والنظر في رسمها وتوجيه قائلها صلى الله عليه وسلم، مع مقاصد الشرع الحنيف وكليته، ما جعل طرحه إضافة لفهم من سبق حول الحديث، ومؤكداً أهمية التدبر والنظرة الشاملة لكل متن على حدة، وكلامه حول فهمه في أحاديث فقه الجهاد عند عرضه لأدلة القائلين بجهاد الطلب ونقاشهم دليل ذلك.
– إضافاته في بعض جزئيات علم الحديث، وانظر إلى كلامه حول الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب، وقد أضاف شرطين لما سطره العلماء في جواز ذلك كما في كتابه «كيف نتعامل مع السُّنة النبوية» عند حديثه عن رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال.
2- ما يتعلق بملكته الحديثية رواية:
– معرفة المتون وحفظها حفظاً تاماً.
– التمييز بين ما كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما كان موقوفاً على غيره، ومن طالع الفتاوى المعاصرة وأحاديث كتبه لوجد عجباً من إدراكه لهذا التمييز!
– كثرة حضور الشواهد والمتابعات بين يديه للحديث الواحد التي تعضد الفكرة وتعمق المضمون.
– سبر المرويات في الموضوع الواحد الذي لا يقف فقط عند حدود المرفوع، بل يدعمه بآثار الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
– معرفة المختصر من الأحاديث والمطولات التي يستشهد بها أحياناً في دائرة أبحاثه وكتاباته، مبيناً أهمية رواية الحديث كاملاً في موطن لأهميته في الفهم ودرء التعارض، وأحياناً أخرى مختصراً لاقتصاره على مناط الشاهد، وهذا من صنيع الكبار وفي الصدارة منهم الإمام البخاري، رحمه الله تعالى.
– حصره لدواوين السُّنة النبوية وما تحمله من منهج وعرض ودرجة للحديث النبوي.
وحقيقة الأمر أن الموضوع المطروح لا يصلح مقالاً، بل أرى أن كل نقطة من النقاط السابقة جديرة ببحث مستقل يرسم أبعاده ويخرج الباحثون كنوزه من مؤلفات الإمام المحدّث في رسائل علمية وبحثية جديرة بالطرح، جديدة بالعرض والمضمون، رحم الله الشيخ المحدّث، وجعل ما قدَّم في ميزان حسناته سلماً ومعراجاً لصحبة سيد السنن صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة، ونحن معهم، اللهم آمين.