في الحلقة الثامنة من سلسلة قراءتنا لمقدمة ابن خلدون، رحمه الله تعالى، يواصل العلامة الراحل وضع الأركان الأساسية لمجلده المهم، وباعتباره من أبرز القضاة ومن كبار فقهاء المالكية وله فتاوى عظيمة جداً، فهو يتكلم في التاريخ بلغة الفقيه المتحرر من قيد التقليد، فيؤكد أنه صنع ما صنع من أجل أن يحرر الإنسان من التقليد والاتباع دون بصيرة، والنظر دون اعتبار؛ فلا بد من معرفة العلل والأسباب التي تجعلك غير مقلد وقادر على نقد ما قاله المؤرخون.
يقول ابن خلدون: «ورتَّبْتُه على مقدمة وثلاثة كتب، المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، والإلماع بمغالط المؤرخين»، والإلماع كلمة في لغة ابن خلدون مكررة ومعناها الإشارة، وهي في معجم اللغة العربية المعاصرة لأحمد مختار عمر، وفي المنجد الهادي لحسن سعيد الكرمي، بمعنى الإشارة، وهو معنى غير موجود في المعاجم القديمة، ولذلك أخذ د. علي عبدالواحد وافي في تحقيقه للمقدمة على ابن خلدون استعمال هذا التعبير، وعدم استخدام تعبير آخر للإلماع.
وفي رأيي، أن اللغة تطوُّر واستعمال؛ فكلما استعمل القوم من لغتهم أصلاً صحيحاً أرادوا به معنى مفهوماً فهي كلمة صحيحة، وليس ضرورياً أن نقف في اللغة عند ما تكلم به أجدادنا، فنحن نقيس عليه ونشتق منه وننحت الألفاظ الجديدة أفعالاً وأسماء للأشياء والوقائع.. إلخ، لكن هذا كله لا يمنعنا من أننا نقر ونجيز استعمال لفظ لم يسبق استعماله إذا كان معناه موافقاً لأصول اللغة وقواعدها، وفي اللغة القديمة: ألمع إليه بسيف؛ أي أشار، وألمع بثوبه؛ أي أشار بثوبه.
أنا أقول هذا لأننا كثيراً ما نقع في الوقوف في وجه التطور اللغوي، ولعلي أكثر وقوعاً في ذلك، لأنني تقليدي جداً في اللغة، بينما إذا أمعنا النظر قليلاً نجد أن هذه الكلمة التي أتتنا من التطور اللغوي صحيحة، متسقة مع الأصول، لا تأباها قواعد اللغة العربية، وبالتالي يجب أن نقبلها.
ثم قال ابن خلدون: «الكتاب الأول في العمران، وذكْر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب، والكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد (يقصد العصر الذي يكتب فيه)، وفيه من الإلمام ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم، مثل: النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم، والكتاب الثالث في أخبار البربر ومن إليهم من زناتة، هذه قبائل ضخمة في المغرب، وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول».
وهنا من الأهمية بمكان أن نتوقف قليلاً عند قول ابن خلدون السابق: «وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من الأعراض الذاتية، ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك»، ونقول: يمكن الوقوف على أحوال من قبلنا ولكن لن نقف على أحوال ما بعدنا بحسب رؤية ابن خلدون، إلا بالتفكير والتعليل والقياس، فما دام حدث لهؤلاء كذا وكذا عندما فعلوا كيت وكيت، فإننا إذا فعلنا مثل ما فعلوا سيحدث لنا مثل ما حدث لهم، ولما كان الآخرون قد نجوا عندما اتخذوا السبل الصحيحة للنجاة، فإننا يجب أن نتخذ سبل النجاة الصحيحة لكي ننجو مثلما نجوا.
وابن خلدون هنا يشير إلى أمرين؛ أولهما أهمية الوقوف عند ما يحكيه لك عن أحوال ما قبلك، من الملوك والأمم والدول، ثم يشير إلى أنك بالتأمل في التعليلات والأسباب التي استنبطها والعلل التي تأملها واستخلصها من دروس التاريخ تستطيع أن تعرف نبأ من بعدك، وستصل إليه، وهذا ليس تنجيماً ولا ضرباً بالغيب، وإنما يأتي هذا بالتأمل العقلي، لأن الأشباه تقاس بأشباهها، والنظائر تعطى حكم نظائرها.
ينادي ابن خلدون في الناس: يا أيها الناس، انتبهوا عندما أتحدث لكم عن قصص الأولين؛ لأن هذا مفيد جداً، واعتبروا بما جرى لهم وبالعلل التي أوردتها لما جرى حتى تستطيعوا التعرف على ما سيكون من أحوالكم في المستقبل، وهو يدلنا على أمرين، هما: وجوب الرواية، ووجوب الدراية.
بين الرواية والدراية
إن علومنا الإسلامية كلها تقوم على الرواية والدراية، فعلم الحديث رواية ودراية، والقرآن الكريم نفسه رواية بالتواتر من محمد ﷺ، ودراية بما يفتح الله على المفسرين إلى يوم القيامة، حتى اللغة رواية ودراية، فقد روى الشعراء الشعر القديم وشعر الأمثال العربية قبل وبعد الإسلام وفسروها واستعملوا لفظاً في موضع ومنعوا لفظاً آخر في موضع ثان، ولذلك نقول: «لا رواية بلا دراية، ولا دراية بلا رواية»، وبدون ذلك لن يفهم أحد شيئاً، وأول من صنع ذلك في علم التاريخ كان ابن خلدون.
لم يأت العلامة الراحل بهذا الفعل من الهوى، لكن أتى به من المعرفة الإسلامية، فهو فقيه ومحدث وأصولي ودارس للتصوف والمذاهب الأخرى، ولقد تراكمت هذه المعارف فأنبت الله سبحانه وتعالى على لسانه وقلمه هذه العلوم في مقدمته، ومن ثم يجب على الإنسان أن يُعمل عقله فيما يقرؤه وينظمه ويكتبه ويسمعه حتى يستطيع بالمقارنة والمقايسة أن يصل إلى توقع ما يأتي.
يقول ابن خلدون: «ثم كانت الرحلة إلى المشرق»، وهذه الرحلة جاءت بعد علمه أن التنكيل سيطاله وهو في المغرب في ذلك الوقت، ففعل مثلما يفعل المهدَّدُون بذلك في كل عصر ومِصْر، وقرر أن يستأذن السلطان في أداء فريضة الحج، ولهذا قصة في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.