عندما يتم الإعلان عن نبأ وفاة عالم بمقام العلاَّمة يوسف القرضاوي، رحمه الله، وترفض وسائل إعلام في بلاد عربية وإسلامية مجرد الإعلان عن هذا الخبر، وعندما توظّف مواقع في الغرب خبر الوفاة للتهجم على هذا العالِم الجليل، فللسائل أن يسأل: لماذا كل هذه الضغينة وهذا الحقد؟! وكيف يفسّر هذا الالتقاء بين نخبة في الشرق والغرب على نفس المواقف بشأن نفس الشخصية؟! لا بد أن وراء هذا الوفاق خيطاً ناظماً يجمع بين الطرفين، أبعد وأعمق من مجرد موقف من شخصية معينة!
ويكفي الاطلاع على التدوينات والتغريدات على شبكات التواصل الاجتماعي والتعليقات الصحفية في عدد من وسائل الإعلام لنكتشف مدى حجم التباين في المواقف بين مدافع وممجد، وناقد وساخر ومتهجم.
تجاوز أدنى ضوابط الأخلاق المهنية الصحفية
اللافت للانتباه أن نخبة من بلاد العرب والمسلمين لا تتورع عن استخدام أقصى أساليب التهجم دون مراعاة لمقام العلم والعلماء، على غرار ما جاء في تغريدة للصحفي والكاتب المصري أحمد سعيد طنطاوي، حيث قال: “وفاة مفتي الإرهاب والدم يوسف القرضاوي، حرض كثيراً على الفتنة والخراب والدمار وقتل الشعوب”، وأضاف: “أسأل الله العظيم أن يهدي من اقتنع بأفكار القرضاوي وأدعوهم للقراءة كثيراً في المقالات والردود التي خرجت للرد على فتاويه المتشددة”.
يصعب على من يعرف أدنى ضوابط الأخلاق المهنية الصحفية الإعلامية أن يتقبل مثل هذه التجاوزات.
ولكن المرء لا يستغرب من ذلك إذا علم حجم العداء الذي تحمله شريحة من النخبة العربية والإسلامية إلى كل ما يتصل بالتدين الواعي، وتحديداً إلى الدعاة والعلماء المجددين الذين يجمعون بين فقه الدين وفقه الواقع، وبالتالي تكون أفكار هؤلاء العلماء والدعاة ومواقفهم وفتاواهم تصب في اتجاه الإحياء والصحوة والوعي الحضاري؛ وهو ما يزعج هذه الشريحة العلمانية التي تشربت أيديولوجيا شعارها “الدين أفيون الشعوب”، وتربت على فلسفة أن الحياة مادة، وأن لا دخل للدين في توجيه الحياة، وفي أحسن الحالات في نظرهم، يقتصر الدين على شعائر ميتة وطقوس بالية، وبالتالي، يصبح القرآن صالحاً فقط لكي يقرأ على الأموات، ويتحول المولد النبوي الشريف إلى مهرجان صاخب يجمع بين المدائح والأذكار والرقص على وقع هذه المدائح في أجواء من الشعوذة والطقوس والبدع التي لا تمت بصلة إلى مقام الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ويصبح شهر رمضان فرصة للسهرات والتمتع بأشهى أنواع الطعام وبالمسلسلات بعد الإفطار، في هذا السياق، لا تتورع بعض وسائل الإعلام العربية عن تقديم مسلسلات هابطة في شهر الصيام تظهر فيها نساء كاسيات عاريات وشرب الخمور.. باسم المدنية والحداثة!
ومعلوم أن هذا النموذج “الحداثي” للمرأة ولمنهج الحياة عموماً الذي تتبناه هذه الشريحة العلمانية يقوم تباعاً على تشجيع التدين المنحرف الطقوسي مقابل استخدام كل الأساليب لإقصاء وتشويه من يبث الوعي الديني بعظمة رسالة الإسلام وقيمه الإنسانية الراقية، وكل من ينظر إلى الدين بنظرة شمولية عبادات ومعاملات، ومنهج حياة، وبناء عليه محاولة استئصال كل من يجهر بمواقف جريئة ضد كل مظاهر الظلم والفساد التي ينكرها الدين ويدعو العلماء إلى التنديد بها والتصدي لها، فلا غرو أن هذه الشريحة ترى في العلامة يوسف القرضاوي وأمثاله الخصم الأكبر لمشروعهم العلماني الإقصائي في العالم العربي والإسلامي، فهؤلاء العلماء لا يقتصر اجتهادهم في التجديد الديني على التوعية بفلسفة الوسطية في الإسلام وبضرورة مواكبة تطور الواقع، بل يتجاوز دورهم إلى اتخاذ مواقف من المستجدات بما تمليه عليه مسؤوليتهم الدينية من وقوف إلى جانب الحق.
في هذا السياق، تندرج مواقف العلاَّمة القرضاوي في مساندة الشعوب التي تسعى إلى استرجاع حريتها وإرادتها وامتلاك سيادتها عبر ما يسمى مسار “الربيع العربي”، ومساندة المقاومة الفلسطينية التي تسعى إلى التحرر من أشكال الاحتلال، وهو ما يفسر مستوى التهجم من أطراف غربية أيضاً على هذا العالم الجليل.
نحاربه بلا هوادة!
وإليكم أنموذجاً لما يكتب على بعض المواقع الغربية، فهذا موقع فرنسي نشر مقالاً بعنوان “الميت الذي يمكن التكلم عنه استثناء بسوء”، جاء تحت عنوان فرعي “العقب السوء” أن “القرضاوي حكم عليه بالإعدام غيابيًا في مصر، ومُنع عدة مرات من دخول الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا والإمارات العربية المتحدة (من بين دول أخرى)، وتوفي عن عمر يناهز 96 عامًا، تاركًا وراءه عَقِبًا يتصف بالشر”.
وأضاف المقال: “فهو يؤمن بمعاداة النساء ومعاداة السامية بشكل صارم، ويعتبر الشريعة القانون الأعلى، ويستخدم باستمرار الخطاب المزدوج بين كلامه المنشور في الكتب العربية وبين ترجماتها الموجهة للغربيين الذين يريد تطمين تخوفاتهم، كما دَعَم السلطان الإسلامي الجديد أردوغان، كان مؤلفًا وخطيبًا بارزًا في جماعة الإخوان المسلمين، من بين كتبه العديدة، نعرف بشكل خاص الحلال والحرام، وهو ملخص للفكر الإسلامي الوسطي النموذجي للإخوان، الذي يدافع من خلاله عن قتل المثليين جنسياً على سبيل المثال، وعن المعاملة الدونية القانونية لغير المسلمين مقارنة بالمسلمين، وهو مثقف بارع، وله قدرة على الترويج لأسوأ الفظائع بأكبر قدر من اللباقة”.
وخُتم المقال بعملية تجنيد حيث جاء فيه: “مات يوسف القرضاوي، لكن للأسف ما زال إرثه الأيديولوجي -الذي هو تمجيد لأسوأ ما في الإسلام المغلف بالخداع– حياً ومؤثّراً للغاية، ومن واجبنا جميعًا أن نحارب هذا الإرث بلا هوادة”.
من خلال ما تقدم، يتبين أن القضية أبعد وأعمق من موقف من شخصية معينة، جوهر الموضوع يتمثل في مظهر من مظاهر التدافع بين الحق والباطل الذي لا يقف عند حدود، وإنما هو تدافع بين مقاربتين؛ الأولى: تدّعي الحداثة وتستهدف القيم الإنسانية، والثانية: تعمل على الجمع بين الأصالة والمعاصرة في ظل قيم تحفظ للإنسان إنسانيته وكرامته.
إن قافلة الدعوة إلى النور والخير تسير لا تتوقف، وعند الله تجتمع الخصوم.