تناولنا في الحلقة السابقة من سورة «البقرة» إخبار الله تعالى أنه خلق جميع ما في الكون، وارتباطاً بذلك، تنتقل الآيات لتكشف عمن خلقه سبحانه لعمارة هذا الكون، وهو آدم عليه السلام وذريته، لتأتي هذه القصة التي بدأ الله تعالى بها قصص القرآن الكريم لتبرز مركز القرآن وبؤرته من خلال الاستخلاف الذي يمثل الدائرة الحاكمة لكل سلوك اقتصادي: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة).
إن هذه الآيات تحكي قصة الإنسان على الأرض، قصة الاستخلاف والتعمير، فالله تعالى جعل الإنسان خليفة في أرضه، وكل قوم يخلف بعضهم بعضاً، قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، منذ خلافة أبيهم آدم، فأمر الخلافة موكول لآدم وذريته، فآدم الأصل الأول للخلق مطمور فيه صفات المخلوقين من ذريته إلى قيام الساعة؛ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 172)، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ) (الأنعام: 165)، (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس: 14).
والخلافة نيابة عن الله تعالى خالق الإنسان وصاحب الشرع، فالكون كونه والمال ماله، والإنسان نائب عن ربه فيما أودعه لديه من مال، وهذا المال لن يأخذه معه عند مماته، بل يتركه كله ويحاسب عليه كله، وفي الحديث: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ» (رواه الدارمي)؛ فيجب أن يكون كسبه وإنفاقه للمال وفقاً لإرادة المالك الحقيقي له وهو الله تعالى تعميراً للأرض وتحقيقاً للعبودية الخالصة لله رب العالمين؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ساكناً وعامراً يعمرها ويسكنها خلقاً ليس منكم.
والله تعالى لم يستشر الملائكة في الأمر فقال: (إِنِّي جَاعِلٌ) فهو أمر مفروغ منه، ولكن يحدثهم بذلك لمهامهم مع هذا المخلوق الجديد، وسؤالهم سؤال استفسار لا استنكار، وقد جاءت الآيات عاكسة للنظرة الملائكية الأحادية لخلق البشر على أنها نظرة إفساد وهدم وتدمير لا إصلاح وبناء وتعمير، وذلك في حدود علمهم المحدود بعلم الله اللامحدود؛ حيث خفيت عليهم حكمة الله تعالى في عمارة الإنسان للأرض وتنمية الحياة على يد خليفته الذي يفسد أحياناً ولكن الخير لا يفارقه، فالتدافع بين الخير والشر من سنن الاستخلاف.
درس عملي
وقد جاء تأهيل الإنسان للقيام بالخلافة بتعليم من الله تعالى، فعلَّم الله عز وجل آدم أسماء المسميات كلها أو الأشياء التي يتعارف بها الناس، ثم طلب من الملائكة أن يخبروه بأسماء هذه المسميات، ولكن بعلمهم وعملهم المحدود ووظيفتهم المحددة لم يصلوا لعلم هذه المسميات، وسلموا بسعة علم الله سبحانه وقدرته، الذي أعطى المخلوق الأدنى هذه الميزة عليهم وهم أعلى منزلة، وبذلك تميز الإنسان بعلم وعمل غير محدودين، ومن ثم كان جديراً بالخلافة، وهذا العلم علَّمه إياه المعلم الأول له سبحانه وتعالى، فهو من وهبه سر المعرفة مع سر الإرادة المستقلة التي تختار طريقه، بدرس عملي مع الملائكة، يعكس الفطرة الإنسانية علماً وعملاً التي جعلت الإنسان أجدر بالخلافة من الملائكة.
وهذا درس لكل إنسان بلغ شأنه من العلم ألا يحكم على شيء إلا بإحاطته من جميع جوانبه، وأن يعي أن علمه محدود فيزداد بزيادته تواضعاً لله تعالى وإيماناً بقدرته وعلمه الذي ليس له حدود، فيوقن أن علم المخلوق مناسب لمخلوقيته وعلم الله سبحانه بلا حدود؛ فيكون من الذين قال الله فيهم: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (فاطر: 28}، (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه: 114)، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْماً؛ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ» (رواه الترمذي).
إن في هذه القصة إشارة واضحة إلى أن العلم من فيوضات الله تعالى وفضله على عبده، وليس بقدرات الذات فقط، وبذلك ينفي المسلم الغرور عن قلبه ويعلم أن فوق كل ذي علم عليماً، وقد حكى القرآن عن هدهد علم ما لم يعلمه نبي الله سليمان عليه السلام الذي حكم الإنس والجن؛ (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (النمل: 22)، وهذا الخضر الرجل الصالح يعلِّم نبي الله موسى عليه السلام ما لم يعلمه؛ (فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً {65} قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف).
وهذا درس أيضاً لمعرفة قيمة أنفسنا كمسلمين وما أكرمنا الله تعالى به وفضَّلنا على غيرنا من المخلوقات؛ فنجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي عليه قوام حياتنا، وخلقنا الله سبحانه مستعدين لها من دون الملائكة وسائر الخلق لتظهر حكمة الله فينا فضلاً بهذا العلم الذي أسجد الملائكة لآدم، فكيف لو ظهر نبي الله آدم بيننا ورأى حال المسلمين قياساً بالغرب، الذي علم الأسماء واستعمر بلادنا بنفسه أو بذيوله وصدّر لنا أسماء الشهوات وغاب عن مؤسساتنا البحث العلمي الجاد؛ فأصبحنا غرباء على آدم وعلومه بتخلفنا وعدم استغلال مواردنا؛ فهذا خيانة كبرى للرسالة الأولى، فلم نعد أوفياء لآدم بخلافة الأرض.