ذكرنا في المقال السابق بقاء أثر الشيخ يرحمه الله من خلال مؤلفاته ورؤيته للقضايا القديمة والمعاصرة، ومنها قضية البيئة، وذكرنا سبب اختياره لمصطلح رعاية البيئة بدلاً من حماية البيئة، والأساس الذي بنى عليه نظرته للبيئة، وأن الحفاظ على البيئة لون من ألوان العبادة، وأن الجمال الذي أودعه الله في البيئة يذكر به سبحانه ويحثنا على التجمل ظاهراً وباطناً، وتناول رحمه الله علاقة الفقه برعاية البيئة.
ونواصل الحديث عن علاقة أصول الفقه برعاية البيئة، حيث يرى، رحمه الله، أن لرعاية البيئة علاقة وثيقة بحفظ النفس، وهو الأمر الثاني الذي جاءت الشريعة للحفاظ عليه، فكل فساد في البيئة يعود على النفوس الإنسانية بالأمراض والأضرار، ومما يدل على الارتباط بين رعاية البيئة وحفظ النفس الإنسانية تجريم الإسلام للعدوان على شجرة يستظل الناس بظلها، وبيان أن عقوبة ذلك دخول النار؛ مما يشعر بفظاعة العدوان عليها وإثم فاعله، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» (سنن أبي داود)، والسدر شجر ينبت في الصحاري ويقاوم العطش وينتفع الناس بظله وبثمره خلال سفرهم في بيئة جرداء تقل فيها الأشجار والثمار، قال أبو داود: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار.
وتبدو علاقة رعاية البيئة بحفظ النسل من ملاحظة كم التأثيرات السلبية التي تنتج عن دفن النفايات الضارة وقطع الأشجار مما يؤثر على الأجيال التالية.
ولرعاية البيئة كذلك صلة بحفظ العقل، فالتأمل في مكونات البيئة يورث العقل تزكية وتنمية، ويجعله بعيداً عن الغفلة، تلك الغفلة التي تضيع عليه الفرص الثمينة، بل ربما أودت بحياته.
ولرعاية البيئة صلة بحفظ المال، فما نملك من أموال مصدرها الموارد الطبيعية التي وضعها الله تعالى في الكون، واستنزاف هذه الموارد يضر بالبيئة، وبالتالي تتضرر الاقتصاديات التي تقوم عليها، ومن رعاية البيئة وصيانة المال تنمية الإنتاج وترشيد الاستهلاك وإحسان توزيع الناتج من كل هذه العوامل، إن كل إفساد في البيئة يتصل بإحدى الكليات الخمس التي جاءت الشريعة لتحقيقها وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال من وجه أو أكثر.
وأشار، رحمه الله، إلى لفت أنظار الناس إلى البيئة من خلال أسماء سور القرآن، فهناك ما يتصل بأسماء الحيوانات كسورة الفيل، وما سمي باسم الحشرات كالنحل، وما سمي باسم النباتات كالتين، والمعادن كالحديد، والظواهر الطبيعية كالرعد، والأماكن كالأحقاف، والكهف، فهذه التسميات تدل على ضرورة العناية بمكونات البيئة من خلال النظر والتفكر، وكل واحدة من هذه السور ترشدنا إلى البحث عن بقية أفراد جنسها.
وذكر رحمه الله الركائز الإسلامية لرعاية البيئة وهي التشجير والتخضير والعمارة والتثمير والنظافة والتطهير والمحافظة على الموارد والحفاظ على الإنسان والإحسان للبيئة والمحافظة عليها من الإتلاف وحفظ التوازن البيئي، ويفصل ويدلل من القرآن والسُّنة وعمل الصحابة ما يزيد الأمر بياناً.
وعدَّد الأخطار التي تهدد البيئة، وذكر منها التلوث واستنزاف الموارد والإخلال بالتوازن، أما التلوث فقرر أن الله تعالى خلق البيئة خالية من التلوث مهيأة لاستضافة الإنسان الذي لم يشكر الله تعالى بل أفسد بيئته، وهذا ما تنبأت به الملائكة؛ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30]، فلوث الإنسان البحار والأنهار والمحيطات والمياه الجوفية حين أدخل عليها المواد الكيميائية الضارة الناتجة من مخلفات المصانع، بالإضافة إلى النفط ومشتقاته والمبيدات الحشرية والمفاعلات النووية والمواد البلاستيكية والرصاص والزئبق والكادميوم، وذكر عدة وسائل لحماية الماء من التلوث، وأشار إلى تلوث الهواء الذي يعد وسيلة لنقل الملوثات المختلفة الناتجة عن مصادر طبيعية أو صناعية، كما أشار إلى تلوث التربة بالمخلفات الصناعية والأسمدة والمبيدات والنفايات النووية والتلوث النفطي والقمامة المنزلية والتلوث الإشعاعي والضوضائي، وذكر عدة وسائل لمكافحة أسباب التلوث المختلفة.
وتناول خطر استنزاف الموارد الحيوانية والنباتية والمائية بطريقة تؤدي بها إلى النضوب، وأشار إلى عدة أسباب تؤدي إلى استنزاف الموارد.
كما نبه إلى خطر اختلال التوازن البيئي، ودلل بقوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن]، وذكر بعض آثار الاختلال البيئي من التغيرات في المناخ والتصحر والجفاف وارتفاع مستوى سطح البحر وهطل الأمطار الحمضية وتآكل طبقة الأوزون.
وتناول بعض الأسباب التي تؤدي إلى فساد البيئة من تغيير خلق الله والظلم والعلو في الأرض واتباع الهوى والانحراف عن الميزان الكوني والكفر بأنعم الله.
وقرر أن الذي حول الإنسان المكلف بعمارة الأرض إلى مجرد مستهلك مسرف في استهلاكه الذي حول النبات الطبيعي النافع إلى نبات ضار باستخدام الكيماويات الضارة في تسميد التربة ومقاومة الآفات الزراعية قد غيَّر خلق الله وفطرته الذي يسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل قد غير فطرة الله.
وذكر الشيخ بعض الوسائل الإسلامية المعاصرة لرعاية البيئة، منها تربية الناشئين تربية موصولة بالدين، وتثقيف الكبار تثقيفاً موصولاً بقيم الإسلام، وإحياء رقابة الرأي العام، وتفعيل التشريعات اللازمة لرعاية البيئة وإيقاع العقاب الرادع، والتعاون بين المؤسسات المحلية والدولية.
وختم الكتاب باستعراض شيء من تاريخنا الذهبي في رعاية البيئة من خلال المؤسسات الحضارية والتشريع والحسبة.
تقوم نظرته رحمه الله لقضايا البيئة على:
1- أساس نصوص القرآن والسُّنة، حيث يحسن فهمها واستخراج الدلالات المناسبة للموضوع مما يدل على صلة وثيقة، وفي هذا تأكيد على الرجوع إلى الأصل الأصيل في الإسلام ومحوريته في معالجة كل القضايا.
2- سعة اطلاعه على دواوين السُّنة، ونلحظ ذلك واضحاً من استشهاده بالكثرة الكاثرة من الأحاديث التي يحتاج استخراجها إلى تصفح دواوين السُّنة والنظر إلى ما يمكن أن تلهمه هذه الأحاديث من معان نستفيد بها في معالجة ما نلقاها من مسائل.
3- يدل الكتاب على حسن اتصال كاتبه بالعلوم الحديثة، بحيث تمكن من الربط بين الحقائق القرآنية والنبوية وما توصل إليه العلم من حقائق.
4- بساطة العرض ووضح الفكرة مما يقرب الموضوع لذهن القارئ غير المتخصص في علوم الشريعة، وهو أحد المقصودين بتأليف هذا الكتاب، بل ينبغي أن يتوجه الدعاة والمفكرون إلى رفع مستوى الثقافة عند عامة الناس ووصلهم بالثقافة الإسلامية، خاصة من خلال طرح الموضوعات التي تهمهم واختيار لغة سهله واضحة بعيدة عن الاصطلاحات التي تحتاج إلى شرح وبعيداً عن التعقيد والغموض.
5- كشف عن الكنوز الموجودة في تراثنا الفكري مما يتعلق بالقضايا المعاصرة، وهذا يدفع المخلصين من المثقفين إلى العودة إليه باحثين عما فيه من خير ننتفع به في واقعنا وندلل على عظمة حضارتنا وتراثنا.
لتحميل كتاب د. يوسف القرضاوي : اضغط هنا