د. بيان فخري عيسى:
أُقر مؤخراً قانون الطفل في الأردن بوصفه استحقاقاً تشريعياً لتوقيع الأردن على اتفاقية حقوق الطفل، وفي سياق العولمة الثقافية في العالم، وأحد أشكال إلغاء الخصوصيات الثقافية للشعوب التي كفلت الأمم المتحدة احترامها نظرياً في وثائقها، بينما اعتدت عليها إجرائياً في اتفاقياتها وبرامجها بسيف التمويل المشروط لصندوق النقد الدولي؛ فالاتفاقية تستند إلى الثقافة الغربية بكل عناصرها من قيم ومعتقدات ومبادئ ومعايير، وتعبر بكل تناغم واتساق عن الفكر الغربي باعتباره المرجع المهيمن على المجتمع الدولي والأمم المتحدة بمنظماتها ومواثيقها واتفاقياتها وأذرعها الثقافية؛ وبالتالي كل بنود قانون الطفل ما هي إلا ترجمة إجرائية للثقافة الغربية والتصورات الغربية للطفولة بكل تجلياتها، وهي نقطة العوار الرئيسة في الاتفاقية وفي قانون الطفل المنسل منها.
وللوقوف على جوهر قانون الطفل، لا بد لنا ابتداء من فهم أمرين في الاتفاقية؛ أولهما أن الاتفاقية منحت الطفل حق اختيار الدين والجنس -وهما البندان اللذان تحفظت عليهما الأردن عند توقيع الاتفاقية- إلا أن التجربة الأردنية وغيرها من الدول في التحفظ على بعض بنود الاتفاقيات الدولية مثل «سيداو» باتت معروفة؛ واختبرتها الشعوب عندما رُفعت هذه التحفظات بمعزل عن المصلحة العامة للمجتمع، وبمعزل عن حاجة المرأة والرجل والطفل في الواقع الاجتماعي، وكان رفع التحفظات تدريجياً في سياق الحصول على التمويل المشروط برفع تلك التحفظات مقابل الحصول على مبالغ من الدين المتراكم على كاهل المجتمع.
والأمر الثاني المهم يكمن في أن العقلية التي تؤمن بحق الطفل في اختيار جنسه ودينه هي ذات العقلية والروح التي صاغت باقي بنود الاتفاقية؛ وبالتالي من الطبيعي أن تكون جميع بنود الاتفاقية وحتى القانون تسير في مجرى واحد، وستصب في نفس المصب والنتيجة في نهاية المطاف.
والتجربة الغربية في تطبيق قانون الطفل خير دليل على حقيقة هذا القانون؛ فعند صياغة قانون الطفل في أوروبا اشترط القانون موافقة الوالدين على تغيير نوع جنس الطفل في حال رغب الطفل بذلك، وتم العمل بهذا الشرط لعقود عديدة؛ إلا أن ذلك لم يمنع من الموافقة مؤخراً على مطالبات بعض المنظمات والجهات بإلغاء هذا الشرط، ومنح الطفل حق تغيير جنسه بغض النظر عن موافقة الوالدين بحسب ما يقدم للطفل من معلومات في مادة الثقافة الجنسية في المدارس.
وبوجود حق للطفل في التأمين الصحي، دفعت الدولة تكاليف تغيير جنس الطفل؛ وبذلك تم إلغاء الحاجة المادية والمعنوية لوجود الوالدين عند اتخاذ قرار تغيير الجنس وتنفيذه، وتعدى الأمر ليصل لدرجة معاقبة الوالدين في حال الاعتراض أو عرقلة عملية التغيير، وهو ما أثار حفيظة بعض الآباء والأمهات في أوروبا واعتراضهم على القانون، وهو ما يعكس مآلات تطبيق قانون الطفل في بلادنا العربية والإسلامية خاصة في حال تم رفع التحفظات عن الاتفاقية.
انحرافات وتناقضات
ويحدد قانون الطفل سن الطفولة باعتباره من الولادة حتى الثامنة عشرة، وهي مغالطة من الناحية الطبية والنفسية والاجتماعية وحتى الشرعية؛ فهذه الفئة العمرية واسعة جداً وغير متشابهة في الخصائص النمائية لأفرادها، وهذا التحديد متناقض مع تعريف الشريعة الإسلامية لسن الطفولة الذي ينتهي بالبلوغ والرشد الذي هو سن التكليف والمحاسبة والمسؤولية، ويتجاهل بشكل تام حق الطفل الجنين في حياته الرحمية؛ التي منحه الله فيها حق الحياة وحرمة الإجهاض، وحق الميراث وحق الحماية من الضرر وغيرها.
فالطفل الذي يبلغ من العمر سنتين وثلاثاً يختلف في خصائصه الجسدية والنفسية وحاجاته وقدراته عن الطفل في عمر السابعة أو العاشرة وغيرها؛ فلا يمكن ضبط نظام الحقوق في هذه الفئات بمنح نفس الحقوق بالتساوي دون تمييز بينها بحسب الخصائص والحاجات والقدرات.
والعوار الاجتماعي الرئيس في قانون الطفل يكمن في إقحام «الجهات الخاصة» عنوة في النظام الأسري، ومنحها حقاً ضمنياً في الولاية بشكل رئيس في متابعة حقوق الطفل بدلاً من الوالدين والدولة؛ وأعطيت الجهات الخاصة تعريفاً فضفاضاً واسعاً يسمح لطيف واسع من المنظمات الدولية للعمل رسمياً وقانونياً على تحديد وضع الطفل وضبطه، من خلال محاسبة ومعاقبة الوالدين في حال عدم التزام تنفيذ بنود القانون، وإلزام الدولة بتنفيذ ما فرض القانون عليها من واجبات تجاه الطفل.
وأصبحت الجهات الخاصة صاحبة الحق في تقييم وضع الأطفال وتقرير مصيرهم؛ فبينما كان الوالدان قديماً يتحملان المسؤولية الكاملة عن الطفل في جميع جوانب حياته، وكانت الدولة تقدم خدماتها ورعايتها للطفولة من خلال وساطة الوالدين، تم إزاحة الوالدين والدولة لصالح الجهات الخاصة، وهو ما يتناقض مع صميم وأصول النظام الأسري والاجتماعي في الأردن من الناحية الشرعية والأعراف الاجتماعية، ومهدد حقيقي للروابط الأسرية وللتماسك الاجتماعي.
وبمجرد وجود قانون خاص بالطفل يمثل عملية اجتزاء للطفل من أسرته ومحيطه الاجتماعي، وضبط وضعه بمعزل عن باقي أفراد الأسرة -على غرار ما تم فعله بالمرأة وتنظيم وضعها بحسب اتفاقية «سيداو» بمعزل عن باقي أفراد الأسرة والمجتمع- وتعزيز لمبدأ الحقوق على حساب الواجبات؛ بتجاهل واجبات الطفل تجاه الآخرين واحترام حقوقهم عليه، وتجاهل حق الطفل في التعليم والتربية، وهذه تعتبر سياسة تفكيك للأسرة بتجزئة الأفراد عن محيطهم الأسري والاجتماعي، وغرس «قيم الفردية المطلقة» على حساب «القيم الجماعية» للحياة الإنسانية في الأسرة والمجتمع.
ولا يمكن إنهاء هذا المقال دون الوقوف على بند حق الطفل في الحصول على الثقافة الجنسية، وهو حق أريد به باطل؛ لأن المقصود منه منح الطفل المسلم الثقافة الجنسية نفسها المقدمة للطفل الغربي؛ وهي الثقافة التي اعتبرت اختيار نوع الجنس أمراً طبيعياً وحقاً للطفل بإمكانه تغييره باعتباره غير ثابت، واعتبرت إقامة علاقات جنسية مع الجنس الآخر أمراً طبيعياً بمجرد تجنب الحمل والإصابة بالإيدز، وجعلت إتاحة استخدام موانع الحمل حقاً للمراهقين في المدارس، وتثقيفهم عليها بالتزامن مع تجريم الزواج الشرعي لمن هم دون 18 سنة منهم، وهي انحرافات وتناقضات كبيرة مع أصول الإسلام وثقافة المجتمعات لا يتسع المجال للتفصيل فيها رغم أهميتها.
هذا كله يجعل قانون الطفل يتعارض مع الحكمة والعقلانية والمنطق السليم في تقرير حقوق الطفل، فبحسب بيانات دائرة الإحصائيات العامة في الأردن، نسبة الأفراد ممن هم دون سن 18 سنة يمثل 40% من سكان الأردن؛ أي أن قانون الطفل ينظم وضع قرابة نصف السكان، وهي الفئة التي ستشكل كل المجتمع بعد أقل من عقدين، فحال هذه الفئة اليوم ووضعها هو شكل المجتمع في المستقبل القريب ومصيره.