بعد تمهيد ابن خلدون، رحمه الله، في الحلقات السابقة، لمقدمة كتابه، ننظر فيما كتبه تحت عنوان «المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها».
إن الإلماع يعني «الإشارة الخفيفة»، ولكن ابن خلدون أسهب فيه، وانتقد كبار مؤرخي الدنيا، كأنه يريد أن يقول: إذا أردت أن أتتبع ما يجب انتقادهم فيما كتبوا لأخذت مجلدات كثيرة، إنما هذا القدر الطويل مجرد إلماع بسيط، وذكر هنا تمسكه بالأسباب، وهذه إحدى مميزات ابن خلدون الفريدة التي صحبته في كل مؤلفاته، فهو لا يذكر شيئاً إلا بيَّن له علة، ولا يذكر واقعة إلا معها إحالة إلى سبب جاءت من أجله، ولا يذكر مديحاً في شخص إلا بيَّن سبب مديحه، أو قدحاً إلا بيَّن سبب قدحه، وإن عنايته بالأسباب هي التي جعلت له هذه المكانة السامية السابقة لقرون، وأظن أنها ستستمر في العلوم الإنسانية، فصنعته كما قال جاءت على غير مثال سبق، وكان من التدقيق في الحوادث التاريخية حتى يبين سببها وعللها.
يقول، رحمه الله: «اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفائدة شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق»، وهو يلفت النظر إلى أهمية التاريخ الكبرى، وضرورة تعدد المصادر في التحقيق، فلا يصح أن نقرأ عن أمة أو ملك أو دولة كتاباً واحداً؛ لأن هذا يحجب عنا باقي وجهات النظر الأخرى، لأن كل الناس دار الكلام عنهم حول الأخذ والرد، والمدح والقدح، والثناء والذم، وبالتالي لا بد من الإحاطة بكل المصادر.
قال ابن خلدون: «وينكبان به عن المزلات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصواب، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الوقائع».
وهنا يشير العلاَّمة الراحل إلى أن كثيراً من المؤرخين والمفسرين وأئمة النقل وقعوا في المغالط في الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، سيما في إحصاء الأعداد والأموال والعساكر، إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر، ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد، حتى لا يقع البعض في «المغالط»؛ وهي جمع مغلطة أو أغلوطة، وهي ما يكثر فيه الخطأ أو الغلط، أو ما يبعث على الغلط.
ويشدد ابن خلدون هنا على ضرورة معرفة عادات البشر وطباعهم في هذه الأوقات، وقواعد السياسة التي قد تحكمها رغبة حاكم ظن أنه باق ما دامت السماوات والأرض، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني من حيث الكيان الاجتماعي الموجود، والأحوال الدائرة في الاجتماع الإنساني، في دولة ما أو قبيلة ما أو عشيرة ما أو عائلة ما، من قوانين أو وقائع وأحوال مبنية على قوانين موجودة تحتاج إلى نظر لاستخراجها، وأهمية قياس الأحوال الحاضرة على الأحوال الماضية، للحصول على العبرة والحكمة ومعرفة أسباب السقوط والصعود، وتحري عدم الوقوع في الخطأ، أو الحيد عن طريق الصدق.
قال ابن خلدون: «وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل، وأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش، فلكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها وتقوم بوظائفها، وتضيق عما فوقها، تشهد بذلك العوائد المعروفة والأحوال المألوفة»، فالرجل يعرب عن دهشته من تلك الإحصائيات الموجودة في كتب التاريخ القديمة، التي تفوق أعداد السكان، وتدخل في باب الخرافات التي لا تعقل.
وقال: «ثم إن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد، يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها، وبعدها إذا اصطفت على مدى البصر مرتين أو ثلاثاً أو أزيد، فكيف يقتتل هذان الفريقان؟ أو تكون غلبة أحد الصفين وشيء من جوانبه لا يشعر بالآخر، والحاضر يشهد بذلك، فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء»، وتساؤله في محله، فكيف يشتبك أكثر من مليون مقاتل في مساحة صغيرة للقتال، وهو هنا يعود لأيقونة مقدمته وهو القياس، حيث يقيس حاضر الأشياء بمواضيها، ويقيس ماضي الأشياء على حواضرها، ويستخرج من هذا القياس النتيجة الواقعية التي يراها تمثل الحقيقة التاريخية.
وقال: «ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير، يشهد لذلك ما كان من غلب بختنصر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه على أمرهم وتخريب بيت المقدس قاعدة ملكهم وسلطانهم، وهو من بعض عمال مملكة فارس، يقال: إنه كان مرزبان المغرب من تخومها، وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء النهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير، ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد، ولا قريباً منه، وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرين ألفاً كلهم متبوع، وكانوا في أتباعهم مائتي ألف، وعن عائشة والزهري أن جموع رستم التي زحف بها لسعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفاً كلهم متبوع».
فهو يواصل تفنيد المغالطات التي طغت بالكتب الأخرى، ويؤكد بأسباب واضحة عدم معقولية الوقائع وتكذيبه لها، ويجدد مساره الملهم في تحقيق التاريخ وتوثيقه.