في 3 مقالات سابقة من سلسلة “أكذوبة الإلحاد”، ذكرنا الحوار بين موسى عليه السلام وفرعون كما عرضَته سورة “طه”، الذي يدور الكلام فيها حول التعريف بالربّ الخالق بأبلغ الأدلة العقلية والمقنعة التي تُلامس الفِطر السوية السليمة، والقلوب الصحيحة، والمشاهدة لكل ذي بصيرة، وقد كان الرد الفرعوني متوجهاً نحو التكذيب بالعناد واللجاج، فلما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدَّر فهدى؛ شرع يحتج بالقرون الأولى مراوغة منه وخداعاً لموسى عليه السلام، كما مرَّ ذكره.
وهنا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴾ (طه: 54):
– ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ فقد خلق الله سبحانه طعامكم وطعام أنعامكم، والأمر هنا للإباحة، ولا يخفى ما فيه من الامتنان والاستدلال على استحقاق المنعم وحده العبادة والطاعة، ولهذا ختم سبحانه الآية بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الذي ذكر في الآية.
– ﴿لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴾؛ أي: البراهين ودلائل ينتفع بها أصحاب العقول الناهية عن اتباع الباطل وعبادة غير خالقها ورازقها جلّ وعلا، فالتفكير والنظر سبيل الإيمان بالله تعالى ووحدانيته. (التفسير الموضوعي، 5/ 260).
أ- قال السعدي: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴾؛ أي: لذوي العقول الرزينة والأفكار المستقيمة على فضل الله وإحسانه ورحمته وسعة جوده وتمام عنايته، وعلى أنه الرب المعبود المالك المحمود، الذي لا يستحق العبادة سواه، ولا الحمد والمدح والثناء إلا من امتن بهذه النعم، وعلى أنه على كل شيء قدير، فكما أحيا الأرض بعد موتها؛ ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾ (الروم: 50).
وخصَّ الله أولي النُّهى بذلك لأنهم المنتفعون بها، الناظرون إليها نظر اعتبار، وأما من عداهم فإنهم بمنزلة البهائم السارحة والأنعام السائمة لا ينظرون إليها نظر اعتبار، ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها، بل حظهم حظ البهائم يأكلون ويشربون وقلوبهم لاهية وأجسامهم معرضة: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف: 105). (تفسير السعدي، 3/ 1030).
ب- قال ابن عطية: انظر إلى هذه الأشياء التي ذكرها موسى عليه السلام؛ هي مما تقتضي بداهة العقول أن فرعون وكل بشر بعيد منها، لأنه لو قال: هو القادر الرازق المريد العالم ونحو هذا من العبارات لأمكن فرعون أن يغالظ فيقول: أنا أفعل هذا كله، فإنما أتاه موسى عليه السلام بصفات لا يمكنه أن نقول: إن ذلك له. (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، 4/ 48).
ت- قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: في قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴾؛ آيات: عجائب، والنهى: جمع نهية، والنُّهى: العقول، وقد سماها الله تعالى أيضاً الألباب، وبها تتم عملية التدبير في الاختبارات، والعقل من العقال الذي يعقل به الدابة حتى لا تشرد منك، وكذلك العقل لم يخلق لك كي تشطح به كما تحب، إنما لتعقل غرائزك وتحكمها على قدر مهمتها في حياتك، وسميت العقول كذلك النّهى؛ لأنها تنهى عن مثل هذه الشطحات.
إذن، فلا بد للإنسان من عقل يعقِلُ غرائزه؛ حتى لا تتعدى المهمة التي جعلت لها ويوقفها عن حدها المطلوب منها، وإلا انطلقت وعربدت في الكون، فلا بدّ للإنسان من نُهية تنهاه، وتقول له: لا لشهوات النفس وأهوائها، وإلا فكيف تطلق العنان لشهواتك ولست وحدك في الكون، وما الحال لو أطلق غيرك العنان لشهواتهم؟
وسُمّي العقل لُبّاً ليشير لك إلى حقائق الأشياء لا إلى قشورها، ولتكون أبعد نظراً وأعمق فكراً في الأمور. (تفسير الشعراوي، 15/ 9296).
قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ (طه: 55):
نلحظ هنا أن موسى عليه السلام يعرض على فرعون قضايا لا تخص فرعون وحده، وإنما تمنع أن يوجد فرعون آخر، وقوله: ﴿مِنْهَا..﴾؛ أيّ: من الأرض التي سبق أن قال عنها: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً﴾ (طه: 53)، ثم ذكر لنا مع الأرض مراحل ثلاث: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾، وفي آية أخرى يذكر مرحلة رابعة، فيقول: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ (الأعراف: 25)، بذلك تكون المراحل أربعاً:
– مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ.
– فِيهَا تَحْيَوْنَ.
– وإليها ترجعون بالموت.
– ومنها نخرجكم بالبعث.
فقوله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾؛ الخلق قسمان: خلق أوَّلي وخلق ثانوي.
الخلق الأوَّلي: في آدم عليه السلام، وقد خلق من طين؛ أي من الأرض، ثم الخلق الثاني: وجاء من التناسل، وإذا كان الخلق الأوَّلي من طين فكل ما ينشأ عنه يعد كذلك، لأنه الأصل الأول، ويمكن أن نوجه الكلام توجيهاً آخر فنقول: التناسل يتولد من ميكروبات الذكورة وبويضات الأنوثة (الحيوان المنوي والبويضة ليست ميكروبات إنما خلايا)، وهذه في الأصل من الطعام والشراب، وأصله أيضاً من الأرض.
وبالتالي، فأنت من الأرض بواسطة أو بغير واسطة، وإن قضية الخلق قضية غيبية، فقد ترك الخالق في كونه عقولاً تبحث وتنظر في الكون وتعطينا الدليل على صدق هذه القضية، فلما حلّل العلماء طينة الأرض وجدوها ستة عشر عنصراً تبدأ بالأكسجين، وتنتهي بالمنغنيز، وحين حلّلوا عناصر الإنسان وجدوها نفس العناصر الستة عشر، ليثبتوا بذلك البحث التحليلي صدق قضية الخلق التي أخبر عنها الخالق عزّ وجل.
– وقوله: ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ (طه: 55)، وهذه مرحلة مشاهدة، فكل من يموت منا ندفنه في الأرض. (تفسير الشعراوي، 15/ 9298).
وبعد أن يموت الإنسان لا يسارع إلى مواراته في التراب إلا أقرب الناس إليه، فترى المرأة التي مات وحيدها وأحب الناس إليها التي كانت لا تطيق فراقه ليلة واحدة، لا تطيق وجوده الآن، بل تسارع إلى أمه الأصلية “الأرض”، وذلك لأن الجسد بعد أن فارقته الروح سرعان ما يتحول إلى جيفة لا تطاق حتى من أمه وأقرب الناس إليه، أما الأرض فإنها تحتضنه وتمتص كل ما فيه من أذى.
ومن العجائب في مراحل بناء الإنسان، أن إنهاء بنيته بالموت تتم على عكس تكوينه، فعندما تكلم الخالق عزّ وجل عن الخلق الأول للإنسان قال: إنه خلق من تراب، ومن طين، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار، وقلنا: إن هذه كلها أطوار للمادة الواحدة، ثم بعد ذلك ينفخ الخالق فيه الروح، فتدبّ فيه الحياة، فإذا ما تأملنا الموت لوجدنا على عكس هذا الترتيب كما أنك لو بنيت عمارة من عدة أدوار، فآخر الأدوار بناء أولها، وكذلك الموت بالنسبة للإنسان يبدأ بنزع الروح التي وُضعت فيه آخراً، ثم يتصلب الجسد كالصلصال ثم يرمّ وينتن كالحمأ المسنون، ثم يتبخر ما فيه من ماء وتتحلل باقي العناصر فتصير إلى التراب. (تفسير الشعراوي، 15/ 9298).
– ثم يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾؛ أي: مرة أخرى بالبعث يوم القيامة، وهذا الإخراج له نظام خاص يختلف عن الإخراج الأول؛ لأنه سيبدأ بعودة الروح، ثم يكتمل لها الجسد.
هذه كلها قضايا كونية تُلقَى على فرعون لعلّها تُثنيه عما هو عليه من ادّعاء الألوهية، والألوهية تقتضي مألوهاً، فالإله معبود له عابد فكيف يدّعي الألوهية، وليس في الربوبية شيء يستحق الألوهية والعبادة إلا من له الربوبية أولاً، ولكنه استكبر وعاند وحارب الربّ وأنكر الإله، وحكم على موسى ومن شايعه من المؤمنين بالتنكيل والتقتيل استكباراً وجحوداً وظلماً؛ (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {90} آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {91} فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس).
_________________________________
اعتمد المقال في مادته على كتاب “موسى كليم الله”، للدكتور علي محمد الصلابي.
1- التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، عبدالحميد محمود طهماز، دمشق، دار القلم، ط2، 1435ه/ 2014م.
2- تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، عبدالرحمن بن ناصر السعدي، السعودية، الدمام، دار ابن الجوزي، ط4، 1435ه.
3- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير ابن عطية)، عبدالحق بن عطية الأندلسي، تحقيق: عبدالسلام عبدالشافي محمد، بيروت، دار الكتب العلمية، 2001م.
4- تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، القاهرة، مكتبة الأسرة، ط1، 1992م.
5- موسى عليه السلام كليم الله عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.