يعيش المسلم الأوروبي في بيئة تُشعره بأنه غني عن الخلق، وتُضعف لديه الشعور بالافتقار للخالق، وجوهر العبودية لله تعالى يكمن في حصول الافتقار إليه، وكمال الخضوع والذل بين يديه، وكلما ازداد افتقار العبد وانكساره بين يدي مولاه اكتملت عبوديته، وكلما زاد استغناؤه واستعلاؤه شُوهت وقلَّت عبوديته، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم رحمتك أرجو، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت”. والذي يعبد الله تعالى حباً وشوقاً إلى لقائه خيرٌ من الذي يعبده خوفاً من ناره وطمعاً في جنته.
وعلماء النفس قالوا: إن الحب هو ميل القلب، فما الذي يجعل القلب يميل؟
قسموا العواطف الإنسانية التي تجعل القلب يميل إلى ثلاثة أنواع من العواطف: العواطف الدافعة التي تمثل الطمع في الجنة، والعواطف الرادعة التي تمثل الخوف من النار، والعواطف الممجدة أي التي تمجّد الكمالات وهي أقوى العواطف وأعلاها وأرفعها، والافتقار والانكسار علامة وجودها.
الافتقار مطلوب في أوقات اليسر والرخاء قبل الشدة والبلاء
فالنبي صلى الله عليه وسلم دعانا إلى عدم التذلل والانكسار وقت الشدة والبلاء فحسب، وإنما في أوقات الرخاء واليسر قبل الشدة والعسر، فقال: “تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفْكَ في الشدة”. وتأمل في دعاء موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] فقد عاش معنى الافتقار إلى الله من شدة الجوع والحاجة، فأجاب الله دعاءه، وجاءته إحداهما تمشي على استحياء، وإنما كان النصر في بدر لحصول الافتقار والذلة لله {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، [آل عمران: 123].
وإنما كانت “لا حول ولا قوة إلا بالله” كنزاً من كنوز الجنة؛ لأنها إعلان عن طرح قوتك وما تملك أمام حول الله وقوته، وقال ابن عطاء الله: “ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب إليك مثل الذلة والافتقار”، فأسرع طريق لتحصيل العلوم والأسرار الربانية هو الافتقار، قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: “ما أظهر عبد فاقة إلى الله في شيء إلّا قال الله تعالى للملائكة: “لولا أنه لا يحتمل كلامي لأجبته: لبيك لبيك”.
الاستغناء مقدمة الطغيان والتعسير والحرمان
جعل الله عز وجل الشعور بالاستغناء هو مقدمة الطغيان فقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، كما جعل الاستغناء سبيلاً للهلاك ومقدمة للتعسير والحرمان فقال: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}، [الليل]، ومع تعدد الأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية والحروب والصراعات تتضاعف الحاجة إلى ترسيخ الافتقار والانكسار لله رب العالمين.
وقد شُرعت العبادات لتحقيق معنى الافتقار، ولنتأمل في الصلاة ركوعاً وسجوداً وتكبيراً، فهيئة الركوع والسجود تحقق الانكسار والتذلل لله رب العالمين، والتكبير في الصلاة لنفي الاستغناء واستصغار أي شيء مهما عظُم أمام عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وتأمل أيضاً في الصلوات التي شرعت لتكون أبداً فقيراً إلى مولاك في سائر الأحوال والأوقات، إذا أذنبت أو ترددت أو أجدبت السماء بالماء، أو تغير حال الشمس والقمر تصلي صلاة التوبة، والحاجة، والاستخارة، والاستسقاء، والخسوف والكسوف.
إن الافتقار إلى الله هو باب القرب الأعظم، وقد حكى الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين عن بعض العارفين قائلاً: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه، ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخد بيدي وأدخلني”، فلنُقبل على الله من الباب الأوسع وهو الافتقار.
وفي تقديري، من أخطر إشكالات التدين والسلوك إلى الله في عالمنا المعاصر، وفي السياق الأوروبي خاصة، تراجُع الافتقار وظهور الاستغناء؛ لأنهما أوسع باب للإخلال بأمر العبودية لله.
ومن أهم الأسباب التي تؤدي للاستغناء وعدم الافتقار ما يلي:
أولاً: اكتمال منظومة الأسباب:
نجح العالَم الغربي نجاحاً باهراً في استكمال منظومة الأسباب، وهو أمر يجعل الإنسان يستمتع بالحياة، لكنه إذا لم ينتبه لنفسه يقع في فخ الاستغناء؛ فأنت إذا مرضتَ تضمن أفضل علاج، وإذا فقدتَ عملك ضمنتَ حداً أدنى من الدخل المناسب لضرورات الحياة، ثم لديك منظومة التأمين التي تؤمنك من أي خطر حتى وُجد تأمينٌ على التأمين!
فتخيل كيف تشعر بالافتقار حين تدعو الله تعالى كيف يحصل الاضطرار مع شعورك أن كل شيء قد ضُمن ورُتب. كان الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله يقول: “الوظيفة تضعف العقيدة”، فقيل له: وكيف ذاك فقال: أرأيت موظفاً يقول في الصباح: اللهم ارزقني؟ ويجب ألا يُفهم من هذا الطرح أن الإسلام ضد الاستمتاع بالحياة على النحو القائم، وإنما المطلوب أن يُستثمر هذا الحال في تعظيم أمر الافتقار والتذلل لله لا العكس.
ثانياً: طغيان المادية وتراجع الربانية:
فنحن نعيش في عالم مادي، تعددت فيه مظاهر المادية، وتراجعت فيه مظاهر الربانية، وكأن عنوانه: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي يلحظ طغيان المادية، فالناس يتنازلون عن خصوصياتهم لإظهار ما لديهم من دنيا، فيصورون الطعام والشراب واللباس والسفر، وقلَّ من يُذكرهم بالله، بل إن الناس حتى وهم في صلاة الجمعة -أرقى صور الربانية والاتصال بالله- لا ينقطعون عن الدنيا ولا يصبرون على ترك هواتفهم لنصف ساعة للصلاة والخطبة.
ثالثاً: نتاج منظومة التفكير الحديث:
كلها عكس التسليم والخضوع لله؛ لأنها تركز على الفردانية، والتحكم في كل شيء، وتكريس مفهوم اللذة والاستمتاع، وهو ما يشكل أزمة متكررة في الجيل الجديد من الشباب المسلم في كل ما يتعلق بالغيبيات، ولهذا يرسل الله الآيات للناس لعلهم يذكرون، فبينما يعتقد الإنسان أنه متحكم في كل شيء يأتيه فيروس كورونا ليشلّ حركة العالم لسنوات، وصدق الله العظيم إذ يقول: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس:24].
رابعاً: الجهل والغفلة:
فالجهل هو الذي يوصل إلى الاستغناء، ولهذا فإن سورة العلق بدأت بقول الله تعالى: {اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَق}، وبعدها جاء التحذير من الطغيان والاستغناء: {كلَّا إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى أنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، والغفلة عن الله أيضاً تؤدي إلى الاستغناء؛ لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم مئة مرة، ويقوم من الليل حتى تتفطر قدماه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ليُحذرنا من الغفلة، ويحثنا على دوام الافتقار إلى الله مهما قدمتَ من أعمال صالحة.
خامساً: حاجة منهاج التزكية في الغرب إلى التقييم والمراجعة:
منهاج التزكية والسلوك إلى الله في الغرب لا يناسب تلك التحديات، فنحن بين مثالية مفرطة نطالب فيها الشباب بأن يكونوا كالصحابة والسلف، في غفلة تامة عن التحديات والفتن التي تواجههم، وبين واقعية زائدة مستسلمة، تتماهى مع الواقع، وربما ميَّعت الدين واعتدت على ثوابته وقطعياته ليناسب الواقع، ونحن أمة الوسط التي لا تهمل الواقع ولا تُفرِط في المثاليات، وتأخذ الناس إلى الله من أقرب الطرق وأيسرها.
وأهم الخطوات العلاجية لتلك الظاهرة ما يلي:
1- منهجية التعامل مع الأسباب:
قضية الأسباب فرغ منها القرآن، ومارسها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته قال تعالى: {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:47]، وهذا من الأسباب كي لا يأكله السوس، وقال الله تعالى على لسان نبيه لأبي بكر رضي الله عنه بعد أن أخذ بالأسباب في الهجرة إلى المدينة المنورة: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فنحن مأمورون بالأخذ بالأسباب الداخلة تحت أيدينا، ثم علينا أن ندرك أن هذه الأسباب لا تعمل إلا بأمر الله، فقد يوجد السبب وتتخلف نتيجته؛ لأن الله تعالى لم يأذن به رغم حصول سببه، كما وجدت النار ولم يقع الإحراق مع نبي الله إبراهيم {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، وهنا علينا التسليم لأمر الله، واليقين أن ما اختاره لنا هو الخير وإن بدا لنا في ظاهره الشر {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]، واعتقاد أن الأسباب وحدها تعمل دون أمر الله شرك؛ لهذا عندما يمرض المسلم يتعين عليه أن يذهب للطبيب ويأخذ الدواء، لكنه يعتقد أن الدواء لا يكون سبباً في الشفاء إلا بأمر الله، لهذا يقول: باسم الله الشافي، وربما أخذ بأقوال الأطباء الكاملة ومع ذلك مات ولم يقع الشفاء؛ لهذا فإن الافتقار إلى الله يجب أن يكون حال المسلم، وشأنه مهما أُحكمت واكتملت الأسباب، وأن يكون تعلقه بخالق الأسباب ومسببها على الدوام. قال بعض أئمة السلف: عرفنا الله بنقض العزائم، يعني أنه يعزم على شيء ويرتب أسبابه ثم ينقضه الله له، فيقول: آمنت وسلمت. حدثني إمام إسباني أن جارة له غير مسلمة أصابتها الكورونا، وكانت ابنتها تتابعها وتعطيها الدواء، ولم تكن كبيرة في السن ولم تكن حالتها معقدة أو خطيرة، لكنها ماتت فجأة، فقابلت ابنتها جارها وقالت له وهي غاضبة: “كان يجب ألّا تموت أمي، لقد أخذت الدواء والتزمت بالتعليمات، فلماذا ماتت؟” ذلك أنها تعلقت بالأسباب ولم تلتفت إلى قدرة المولى الجليل، أنه قد توجد الأسباب وتتخلف نتيجتها.
ورحم الله ابن عطاء الله السكندري حين قال: “سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار”؛ يعني أن أقدار الله محاطة بأسوار عالية مُحكمة، لا تخترقها همّتك وإرادتك وعزيمتك وأسبابك، فعليك أن تُسلّم لأمر الله وترضى به، ولا تحاول خرق هذه الأسوار في أمور الدنيا أو الآخرة. وقال أيضا: “اجتهادك فيما ضُمن لك وتقصيرك فيما طُلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك”، وقال أيضاً: “متى فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء”.
2- التربية بالقدوة:
علينا أن نكون قدوة لأولادنا بأحوالنا قبل أقوالنا في إظهار افتقارنا لله عز وجل، بأن يشاهدونا دائماً نفتقر إلى الله في كل شيء، ونبتهل إليه، ندعوه ونرجوه فيما صغر أو كبر، نرضى ونسلم لقضائه وقدره، وإنما كان الدعاء مخ العبادة؛ لأنه عنوان الافتقار والانكسار لله عز وجل، لهذا جاء الحديث عنه في القرآن بنفي الواسطة، فقال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. نعلِّق لهم على كل حدث ونقول لهم: انظر وتأمل لولا أننا دعونا الله، كذلك بأن نصلي معهم، ونعلمهم الاستخارة في الأمور كلها؛ لأن عنوان الاستخارة الافتقار والانكسار إلى علم الله وقدرته، وردّ الأمر إليه سبحانه وتعالى بتجرُّد تام وتسليم كامل.
3- إصلاح منهاج التزكية:
إصلاح النفس وتزكيتها يجب أن يكون همّاً يحمله المسلم لنفسه ولمن يعول، فأعظم قسم في القرآن الكريم على تزكية النفس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس]، وعلينا أن نتجنب الغرق في المثالية والواقعية، وأن نعود إلى الوسطية برعاية الفتن المحيطة بأولادنا وتحصينهم مبكراً، بحد أدنى من التربية الروحية العاصمة لهم من الفتن، كحد أدنى من الورد القرآني، صفحة واحدة في اليوم مع تدبر آية، وورد من الذكر المطلق ولو خمس دقائق، وصيام يوم في الشهر صيفاً، والإثنين والخميس شتاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “عليك بالصوم فإنه لا عِدل له”، لا يعدله شيء في تزكية النفس والثواب عند الله.
كما أننا بحاجة إلى إعادة النظر في معيار التدين لدى شبابنا من الجيل الجديد، فمَن تجنَّب الكبائر وأدى الفرائض على خير كبير، لا نوبخه ولا نحقره لأنه لم يزد على ذلك، أو لأن هيئته الظاهرة ليست كما نريد. وعلى أهل الفكر والنظر في أوروبا أن يبذلوا جهدهم لتطوير منهاج للتزكية، يناسب ويواكب هذا الواقع وتلك التحديات.
4- إحياء الربانية باغتنام مواسمها:
في هذا العالم المادي لا بد من إحياء الربانية، وإيجاد تيار روحاني يأخذنا من عالم المادة والشهوات إلى حياة الروح ورياض الجنات، ومن أهم المداخل لتحقيق ذلك: اغتنام المواسم الربانية في الخلوات والعبادات، كالعشر الأواخر من رمضان، ويوم عرفة، وعاشوراء، وأيام الهرج كليلة رأس السنة، وأن ننظم البرامج التعبدية والمخيمات الروحية في المساجد، والرحلات التأملية فيما أبدع الله في هذا الكون مع أسرنا وأولادنا، وصدق الله العظيم إذ يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
________________________________
(*) عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية، رئيس لجنة الفتوى بألمانيا، والمقال نقلاً عن “عربي بوست”.