خلق الله تعالى الكون وأجراه على أسباب وقوانين؛ هذه الأسباب منها المادي المنضبط في عقولنا، الذي نستطيع الحساب بناء على اكتشاف قوانينه، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) (الإسراء: 12).
وهذا النوع من الأسباب له قوانين ثابتة لا تُخرق عادة، اللهم إلا أن تُعطل بأمر خالقها سبحانه وتعالى على يد رسول من رسله للإعجاز؛ ولإثبات صدق دعواه النبوة.
وقد جرى مثل هذا على يد إبراهيم الخليل عليه السلام حين تعطلت قوانين النار، فبدل أن تحرقه كانت برداً وسلاماً عليه؛ (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 69).
وجرى مثله لموسى عليه السلام حين ضرب البحر بعصاه، فانفلق «فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم»، وضرب لقومه طريقاً في البحر يبساً، فلما نجا ومن معه رد الله تعالى البحر إلى قانونه الأصلي فأغرق فرعون ومن معه.
وهذه الأسباب تدرك العقولُ حسابَ قوانينها -إن هي أخذت بأسباب العلم- حتى نحسب أوقات الكسوف والخسوف بدقة.
وهذا النوع الأول واضح لكل متعقل منصف؛ وهو دليل وجود الله، ودليل الخلق والحكمة؛ ومع ذلك يماري فيه بعض البشر.
وأما النوع الثاني من الأسباب فهو أدق من أن يدركَ العقلُ قوانينه بدقة، لكنه يبقى في مجال التنبؤ والتوقع؛ لذلك لا يماري فيه اللادينيون فقط؛ بل ربما بعض المنتسبين للأديان أيضاً.
ومثال ذلك: المطر والقحط؛ الخضرة والجدب؛ الاستقرار والزلازل؛ الهدوء والبراكين، النسيم والعاصفة.. إلخ.
فهذه وإن كان البعض يردها لأسباب مادية؛ وهي حق؛ لكنها تبقى أسباباً لا دوريةَ معلومةً لها عندنا، ولا ضبطَ نتوقعه بدقة لأسبابها.
فنحن نحلل سبب وقوع الزلازل بأنها هزة أرضية، وربما يحدد البعض ميكانيكيتها، لكن لا ضبط لدورية حدوثها ولا لأماكن حدوثها، ولا لقوة الهزة.
والبراكين انفجار في قشرة الأرض بسبب الضغط المتولد من الحرارة بسبب المعادن المنصهرة في بطنها، لكن نفس المنطق: لا ضبط لوقت حدوثها ولا لمكانه ولا لقوته.
لذلك فالبشر يمكنهم تجنب الآثار السيئة لهذه الكوارث بأسباب احترازية فقط، قد تغني أحياناً، وقد لا تغني عنهم شيئاً، لأنهم يحترزون من شبه مجهول، فلا علم لهم بوقت منضبط ولا علم لهم بمدى قوة الكارثة.
رؤية شرعية
أما الرؤية الشرعية لهذا عند المؤمن، فهي أن هذه الحوادث زمامها في يد الله خالق أسبابها سبحانه وتعالى.
لذلك، حين يقال له: إن هذه الحوادث بسبب ذنوبك؛ فإن الأمر يستقيم في نفسه ولا يجد حرجاً من التسليم لأمر الله تعالى، فيتولد في نفسه يقين يدفعه للجوء إلى الله تعالى حين الكرب؛ لأنه وحده هو من يستطيع كشفه، فيوقن المؤمن أن هذه الكربات تُرفع بالتوبة، وطلب العفو من الله تعالى.
والقرآن يشير بوضوح لا لبس فيه إلى هذا؛ حيث قال تعالى عن فرعون وقومه: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف: 130)، وقال بعدها: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ) (الأعراف: 133).
فرد سبحانه وتعالى أمر القحط ونقص الثمر، والطوفان وهجوم الحشرات، إلى أمره المباشر.
وقال تعالى عن قوم سبأ: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) (سبأ: 16)، فانهيار السد ومجيء السيل وتبدل الثمر بأمر إلهي.
وقال تعالى عن قوم نوح: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ {11} وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (القمر)، وقال تعالى: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً) (الفرقان: 37)، فتفجر الأرض وسيول المطر وغرق الأرض بأمر إلهي.
وقال تعالى عن عاد قوم هود: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ {6} سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ {7} فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) (الحاقة)، فهبوب الريح العاصفة بأمر إلهي.
ويقرر القرآن بوضوح أن البركة في الرزق والمطعم والمشرب إنما تكون في طاعة الله، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96)، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة: 66).
كما يقرر القرآن أيضاً أن البلاءات إنما هي بسبب بعض الذنوب، ولا يؤاخذنا الله بكل ذنوبنا، لكنه يعفو عن كثير منها، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30)، وقال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) (النحل: 61).
ولأن البشر طبيعتهم خطاؤون؛ فبلاء الله إياهم قائم لأمرين؛ الأول: تكفير للمؤمن عن ذنبه؛ أو رفع لمنزلته التي قصر عنها عمله، وهذا المعنى ثابت في السُّنة الصحيحة، والثاني: ردع لغير المؤمن وتخويف لعلهم يرجعون؛ فإن تابوا فبها ونعمت، وإلا فما ينتظرهم في الآخرة أشد وأبقى.
على أن هذه الحوادث والكوارث قد يماري فيها غير المؤمن، يقول: أحداث لها أسباب صنعتها الطبيعة بسبب تغيرات تراكمية أو تغيرات فجائية؛ فالسد انهار بسبب التآكل؛ والزلزال حدث أرضي متكرر، والريح العاتية (الإعصار) بسبب تغيرات في الضغط الجوي؛ وقلة الثمر بسبب إصابات النبات الفطرية، وهجوم الحشرات بسبب زيادة أعدادها.. إلخ.
لكن حين يرى المؤمن الربط القرآني المباشر بين هذه الأحداث والأوامر الإلهية، فإنه يوقن جازماً أنها بما كسبت أيدي الناس، وأن البلاء قرين الذنب وكشفه قرين التوبة، ويعفو ربنا عن كثير.
هكذا يرى المؤمن تصاريف الأيام والحوادث، فلا شيء عبث، ولا شيء من تلقاء نفسه، بل مرد كل أمر إلى الله الخالق سبحانه وتعالى.