مرت علينا، في الأيام الماضية، أحداث أفجعت العالم والأمة الإسلامية جميعاً حينما قامت على خبر الزلزال الذي دمر كثيراً من القرى والبلاد في سورية وتركيا، ووصل أثره واستشعرت به دول كثيرة من لبنان للعراق لمصر وغيرها، وقد طالعتنا مواقع الحدث المرئي وعدساته -وما زالت- على أمور لا يصبر الإنسان الطبيعي على رؤيتها، ولا يتحمل قلبه لهولها، وهذا الحدث الجديد القديم يدفعنا إلى قراءة حدث الزلازل قراءة شرعية إسلامية، وعبر وعظات حياتية أسجلها للمسلمين، ونقصد هنا فريقين:
الأول: الذي لا يستطيع تفسير الحدث تفسيراً إسلامياً في ظل إيمانه وإسلامه بقضاء الله وقدره، غير أنه لا يستطيع أن يصل لذروة الفهم من هول الأمر وشدته، أو لذروة التطبيق العملي لما تربى عليه نظرياً من سُنة الاختبار والابتلاء من خلال القرآن والسُّنة خاصة في مقابل ما يتعلق بعدل الله وفضله ورأفته بعباده.
والفريق الثاني: الذي يحاول استغلال الحدث دائماً لتوجيهه توجيهاً واحداً لا ثاني له في جعله انتقاماً إلهياً، وعذاباً سماوياً، للعصاة والمذنبين، جامعاً في سياقاته أقواماً وأمماً لقوا حتفهم بهذا الأمر وبهذه الطريقة وأُبيدوا عن بكرة أبيهم كقوم ثمود وعاد ومدين وقوم لوط، وكأن أصحاب هذا الفريق معصومون منزهون عن المعاصي غير مرتكبين لها.
لقد حدثنا القرآن الكريم طويلاً عن السنن الكونية في تنوع مختلف بين ما سيكون حتمياً في الدنيا، وما سيحدث قرب الساعة وبعد قيامها، من ذلك ما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (يونس: 22)، كما تكلم رب العالمين عن الزلازل في كثير من الآيات، بل سميت سورة بهذا الاسم «الزلزلة»، وقال تعالى: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً) (الواقعة: 4).
والحديث عن هذه السنن متنوع المفهوم والمقصد والقراءة الشرعية الصحيحة، من ذلك:
أولاً: السنن الكونية أصل في بيان القدرة الإلهية:
تأتي سنن الله في كونه وهو الخالق سبحانه من زلازل وبراكين وخسوف وكسوف ومنع للقطر وشدة للرياح والعواصف وغيرها لبيان طلاقة قدرته سبحانه وتعالى، وعندما تدرك هذه القدرة فإنها تفرز كثيراً من الأمور التي يجب التنبيه والتذكير بها والإفاقة من نسيانها، فقد قال سبحانه: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) (الأنعام: 65)، وعند البخاري عن عَبْد اللَّه بن مسعود: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ فَقَالَ: يَا أَبَا القَاسِمِ، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَالخَلاَئِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَرَأَ: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الحج: 74)».
ثانياً: النبي عاش بعض هذه السنن الكونية:
تأكيداً لثبوتهاً وتسنيناً لكيفية التعامل معها، فعند البخاري عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى مَخِيلَةً -يَعْنِي الْغَيْمَ- تَلَوَّنَ وَجْهُهُ، وَتَغَيَّرَ، وَدَخَلَ وَخَرَجَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، قَالَتْ: فَذَكَرَتْ لَهُ عَائِشَةُ بَعْضَ مَا رَأَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِينِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ، قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ».
والنبي هنا يُحيي سُنة الخوف من الله واللجوء الدائم إليه وأهمية قراءة هذه السنن في ضوء التقرب إليه والتضرع بين يديه ومعرفة قدرته، وهديه معلوم في الكسوف والخسوف والاستسقاء وغيرها من الكوارث التي حلت بزمانه وتنزلت بأماكنهم وهو بين ظهرانهم من حسن توجيه بين يده وتسنين يحمل الناس عليه، فكيف يقول أحدهم: إنه عذاب نزل أو حلَّ والله قد نفى عنه هذا؛ (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) (الأنفال: 33).
ثالثاً: علامة دنو الساعة:
فما الزلازل والبراكين والفتن إلا علامة لدنو الساعة وقيامتها، وانتهاء الدنيا وزخرفها، وينبغي أن تقرأ الأحداث الحاصلة في هذا السياق، وما يترتب عليه من سُنة الاستعداد للرحيل وحسن الاستقبال للخاتمة ونهاية الدنيا، فعند البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ -وَهُوَ القَتْلُ- حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ».
رابعاً: النظرة الإيجابية للأحداث:
وهذه النظرة هي في حقيقة الأمر أهم ما ينبغي قراءة الحدث من خلالها، فما الزلازل وغيرها من هذه السنن إلا جزء من الابتلاء الذي يبتلى فيه المؤمن على إيمانه ودينه، بل إنه علامة على الخيرية التي أرادها الله تعالى بعبادة لمن فُقِدَ شهادة وخاتمة سعيدة، ولمن فَقَدَ وصبر تسلية وأجراً على صبره واحتسابه، فقد روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ»، وعنه أيضاً قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»، وقد كتب لهؤلاء الشهادة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
خامساً: تأكيد العدل الإلهي:
فليس موت الأطفال والكبار والبهائم وغيرهم ممن رفع عنهم القلم أو تأكد ضعفهم منافياً لعدل الله تعالى، بل إن حكمته وعدله قائمان لا حيف ولا ظلم ذرة واحدة، غير أن هذا العدل يجب أن يقرأ في صور مهمة:
– فالعدل منه سبحانه قائم على علمه بالغيب والمشاهدة، فمقياس الناس في رؤية الأمور مناط المشاهدة لا الغيب، وبالتالي فالحيف منا نحن في سرعة الاتهام أو في رؤية الأسباب دون غيبيات الأمور، ولنا في قصة الخضر وموسى عليه السلام دلائل على هذا وأجوبة لكثير من أسئلة الحاضرين أو المنكرين.
– والعدل منه سبحانه قائم على الدنيا والآخرة لا الدنيا فقط، فقد يبتلي الكثير في الدنيا لحكمته ولاختبار عباده، لكنه لا يظل بلاؤه لمن صبر واحتسب وسلم في الآخرة، فيجزي بالإحسان والخير والفضل، وتتبع في كتاب الله قوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (الزمر: 9)، وقوله تعالى : (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك: 22).
– والعدل منه سبحانه قائم على الإبقاء والاصطفاء؛ فقد يبقي عبداً لم يصل بعد بعمله إلى بر الأمان ونيل الجنان، وقد يصطفي آخر إلى الملأ الأعلى بعد أن يكون قد حقق بعمله أو بفضل الله
– والعدل منه سبحانه قائم على الإبقاء والاصطفاء؛ فقد يبقي عبداً لم يصل بعد بعمله إلى بر الأمان ونيل الجنان، وقد يصطفي آخر إلى الملأ الأعلى بعد أن يكون قد حقق بعمله أو بفضل الله عليه ما يدخله الجنة؛ فيكون عدله سبحانه وتعالى تم، وفضله حل.
– والعدل منه يقتضي في بعض الخلق عقوبة رادعة ليخلص إليه وما عليه شيء، فيُري البعيد هول الحدث وشدته، ومن وقع فيه يقول بلسان حاله: ما أحلمك من إله وأكرمك من رب.
وأما العظة الحياتية التي تؤخذ من هذا الحدث، وهي الغاية المرجوة من مثل هذه الأحداث، فيمكن التنبيه على أهمها فيما يلي:
1- إحياء اليقظة الجماعية:
إن هذا الحدث قد أخرج في حقيقة الأمر كثيراً من المنطوين على أنفسهم، المنكبين على شأنهم الداخلي والحياتي، كما أنه أيقظ كثيراً من سباتهم، وأعاد بوصلة الروح الجماعية بين أفراد الأمة الواحدة، ولعل هذا الموقف شبيه بموقف حدث أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً، فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اسْتَبْرَأَ الخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا» ثُمَّ قَالَ: «وَجَدْنَاهُ بَحْراً» أَوْ قَالَ: «إِنَّهُ لَبَحْرٌ»، فقد أخرج الصوت أهل المدينة خرجوا جميعاً لينظروا ويساعدوا، ترك كل واحد ما في يده وانطلقوا إلى المؤازرة والدعم والتفقد الذي يسلم معه المجموع ويقدم فيه أمن الجميع على الفرد، فكيف ينصلح حال الأفراد دون يقظة جماعية تجمع شملهم وتوحد قوتهم وترجع جمالهم.
2- تفعيل أخلاق منسية:
لقد جاء هذا الحدث فأخرج وفعّل أخلاقاً منسية أو خارجة عن نطاق العمل والخدمة لم تعد موجودة بكثرة، مع أنها من أصول تكويننا، كنا نقرأ عنها ونكاد نحسد من قام بها من هذه الأخلاق: النجدة الميدانية، التأثر بالمصاب، الإحساس بوجع الأمة مع بعد المكان، وقد تجسدت جميعها في هذا الحدث من المحيط إلى الخليج؛ سرعة في النجدة، وتأثراً قضَّ مضاجع الآمنين المنعمين، ودعاء ودعماً ومعايشة.
3- إيقاظ الإيمان المخدر:
فالإيمان موجود، لكنه ضعيف، ومثل هذه الحوادث تحيي جذوة الإيمان في قلب الجميع لمن تفطن؛ أين أنا؟ وكيف لو كنت مع من فُقد؟ أمور تعيد نظرة الإنسان لدنياه وآخرته، وتوقفه عن غيه ومعصيته، وتُوقظ فيه إيماناً مخدراً، وتجدد معه تغييراً عظيماً لمسيرته واهتماماته وغايته تجعل على أولوياته ربه دينه وآخرته.
4- عودة الخوف من الله في توازن الحياة:
فلقد قال الله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) (الإسراء:59).
ومثل هذه الآيات تخيف، والخوف أحد جناحي التوازن الحياتي عند المسلم مع الرجاء، إذا غاب حل بدله كثير من الطغيان والظلم والاعتداء والكبر، فمن أمن العقوبة أساء الأدب، فتأتي هذه الآيات لتردع وتخيف وتعيد النظام إلى حياة الإنسان وتحمله على إبصار موضع الأقدام ورؤية الأجل والحساب.