الزلازل إحدى أكثر الكوارث الطبيعية تدميراً، فهي كارثة مفاجئة، يرتبط تأثيرها العميق ارتباطاً مباشراً بهوية الناس ويقينيات الحياة، حيث أشخاص مفقودين وأسقف منهارة وجرحى هنا وهناك ومدخرات ضائعة وروتين يومي لم يعد موجوداً، وصولاً إلى الخوف من المستقبل، كارثة تلقي بظلالها القاتمة على الناجين وأسرهم، وتترك آثاراً وندوباً لا تمحوها السنون.
وزلزال فبراير 2023 ليس استثناء، فقد أودى بحياة أكثر من 26 ألف إنسان في تركيا وسورية، وشرد أعداداً لا حصر لها، وحيث يشكل الأطفال نسبة كبيرة من التعداد السكاني في الشمال السوري، ويشكل الأطفال حتى سن 17 عاماً ما يقدر بـ26.9% من تعداد السكان في تركيا، حسب إحصائيات عام 2022، فمن المتوقع أن نسبة المتضررين من الأطفال بزلزال فبراير كبيرة جداً، أولئك الأطفال الذين تكون عقولهم النامية أرضاً خصبة للصدمات النفسية التي أشهرها اضطراب ما بعد الصدمة المعروف أيضاً بالكرب العقلي (PTSD).
ولضمان حصول هؤلاء الأطفال على الرعاية النفسية السليمة، فمن المهم لكل مربٍّ ومعالج وبالغ ممن يحتكون بهؤلاء الأطفال فَهْم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وأفضل الطرق لعلاجه من خلال فهم الآثار النفسية لهذه المأساة على الأطفال.
ما اضطراب ما بعد الصدمة؟
بحسب تعريف معجم مصطلحات الطب النفسي، فإن اضطراب ما بعد الصدمة الذي يسمى أحياناً اضطراب الكرب التالي للرضح يرمز له اختصاراً «PTSD» من «Posttraumatic stress disorder»، هو نوع من أنواع المرض النفسي، حسب النظام العالمي للتصنيف الطبي للأمراض والمشكلات المتعلقة بها، يسبق اضطراب ما بعد الصدمة، استناداً إلى تعريف الاضطراب، حادثاً واحداً أو عدة حوادث كارثية أو تهديدات استثنائية، ليس من الضروري أن يكون التهديد هذا موجهاً إلى الشخص ذاته، بل يمكن أن يكون موجهاً إلى أشخاص آخرين (مثلاً إذا كان الشخص شاهداً لحادث خطير أو عمل من أعمال العنف)، تظهر الأعراض النفسية والجسدية لاضطراب ما بعد الصدمة عادة في غضون نصف عام بعد الحدث الصادم، يؤدي الحادث الصادم إلى اهتزاز فهم الشخص لذاته والعالم من حوله وإلى تشكل أحاسيس العجز لديه.
من المرادفات الأخرى لاضطرابات ما بعد الصدمة: أمراض ما بعد الصدمة، متلازمات ما بعد الصدمة، الاضطرابات النفسية لما بعد الصدمة، المتلازمات النفسية القاعدية لما بعد الصدمة.
ووفقاً للمركز الوطني لاضطراب ما بعد الصدمة، فإن ما بين 7 إلى 8% من الأشخاص قد يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة في مرحلة ما في حياتهم.
ويعد اضطراب ما بعد الصدمة حالة قابلة للعلاج، وفي كثير من الأحيان قد يصبح أقل شدة مع مرور الوقت حتى من دون تلقي علاج.
وعادة ما يتأثر الطفل بنفس مستوى تأثر البالغين عند رؤية شخص مقرب إليه مثل أحد الوالدين أو الأشقاء يتعرض لحادث أو لكارثة، أو عندما يتعرض هو للشيء ذاته، وفي مثل هذه الحالة يصاب الطفل بالرعب، وينمو لديه الشعور بالعجز، ويختفي الشعور الأساسي بالأمان.
ويمكننا تقسيم الأحداث الصادمة إلى مجموعتين مختلفتين، وهي:
– التعرض لحدث شديد منفرد مثل الزلزال أو وفاة أحد الوالدين أو كلاهما في حادث.
– التعرض لمواقف شديدة الوطأة حدثت بشكل متكرر على مدى فترة طويلة؛ مثل القصف أثناء الحروب، أو التعرض للاعتداء المتكرر.
تأثير اضطراب ما بعد الصدمة في مخزون الذاكرة:
عندما يشعر الشخص بخوف شديد يتهيأ الجسم كله للدفاع فيؤدي ذلك إلى اضطراب في عمل مخزون الذاكرة، حيث إن الذكريات العادية تُخزّن في تسلسل زمني مُتصوَّر، وتمنحنا إحساساً واضحاً أنها حدثت في الماضي، أما الذاكرة الصادمة فلا تُخزّن في التسلسل الزمني هذا، ولا ينظر إليها على أن لها نهاية واضحة؛ مما يجعل الشخص مستمراً في التفاعل كما لو أن الحدث المرعب لا يزال مستمراً.
كيف يبدو اضطراب الكرب ما بعد الصدمة عند الأطفال؟
يمكن للأطفال أن يُصابوا بالصدمة جرّاء الأحداث المرعبة، كما أوضحنا، وكلّما حدثت الصدمات بوقت مبكّر أصبحت عواقبها أسوأ، حيث يعتمد الطفل الصغير بشدة على الآخرين في إدارة حياته؛ ولذلك فإن تعرضه لموقف شديد الرعب والشعور بالعُزلة قبل أن يُمرِّن قدرته على التعامل مع هذه المواقف بمفرده قد يكون له تأثير قوي عليه.
يعتمد تأثير اضطراب الكرب ما بعد الصدمة بشكل كبير على عُمر الطفل، فيمكن القول عموماً: إن الأطفال الأصغر سنّاً يتفاعلون مع الحدث من خلال الدموع والغضب والتشبث والقلق، أما الأطفال الأكبر سناً فغالباً ما يجدون صعوبة في التركيز، فضلاً عن الشعور بالذنب والهلع، ويمكن أن يتحاشوا الناس (الخجل المفرط).
مراحل علاج اضطراب ما بعد الصدمة
يوجد العديد من الطرق التي أثبتت جدواها في علاج اضطراب ما بعد الصدمة، منها العلاج المعرفي السلوكي، واستخدام الفن و«السيكودراما» في العلاج التي يمكن استخدامها لكل من الأطفال والبالغين، ومن الشائع في معظم طرق معالجة الصدمة دعم المشاعر المتعلقة بالاستقرار والمعالجة، وهي كالآتي:
1- الاستقرار:
يجب توفير الإحساس بالاستقرار عند الطفل على الصعيدين الخارجي والداخلي، حيث يتعلق الاستقرار الخارجي بتوفير البيئة الآمنة الهادئة؛ مما يحتم معرفة موظفي المدرسة بحاجة الطفل المتزايدة للرعاية مثلاً، أو توفير الدولة للخدمات الاجتماعية اللازمة واتخاذ إجراءات الحماية للأفراد التي تضمن عدم تعرضهم لتكرار الصدمات.
أما الاستقرار الداخلي، فهو المتعلق بالعواطف والمشاعر والمعايشات الداخلية المؤلمة، ويتم التعامل معه عن طريق:
– معرفة المربي لجميع المعلومات حول الصدمة وسبب حدوثها وردود فعل الطفل تجاهها.
– ممارسة الطفل للتمارين التي تركز على الصفاء الذهني كتمارين الاسترخاء.
– تنظيم الوضع العاطفي الخاص بالطفل.
– وضع حلول لمواجهة الأفكار السلبية المرتبطة بالصدمة.
تمارين استرخاء يمكن تدريب الأطفال عليها؛ حيث يتعلق الاسترخاء بالعمل على خروج الجسم من ردة فعل الخوف والمتمثلة بتوتر العضلات وتسارع النبض والتنفس، وغير ذلك.
– ركّز على التنفس، واستنشق الهواء لمدة ثلاث ثوان، احبس أنفاسك لمدة ثلاث ثوان، ازفر لمدة ثلاث ثوان، احبس أنفاسك لمدة ثلاث ثوان، كرر ذلك عدة مرات، ركز على شيء من حولك خلال ذلك الوقت، حبذا لو هناك إطار صورة أو نافذة أو أي شيء آخر مربع الشكل يمكنك اتّباعه بنظرك وأنت تتنفس.
– قم بشد الجسم لمدة خمس ثوان، استرخِ لمدة خمس ثوان، وكرر ذلك عدة مرات.
– ركّز على جزء من الجسم في وقت واحد، وقم بشده وإرخائه، افعل ذلك مع الجسم كله، القدم اليمنى، بطن الساق اليمنى، الفخذ الأيمن، القدم اليسرى، بطن الساق اليسرى وعلى هذا المنوال.
2- المعالجة:
الهدف من المعالجة هو تحويل ذاكرة الصدمة لتصبح ذاكرة عادية، ولا يتوقع المربي أن الذكريات سوف تختفي أو تنسى، فهذا لا يحدث، ولكن يحاول المربي مساعدة الطفل على دمج الصدمة مع بقية قصة حياته لكي يضيفها للتسلسل الزمني فتتحول لجزء من الذاكرة العادية تلقائياً، عندها يدرك الطفا ذهنياً وشعورياً أن الصدمة وقعت وانتهت، وعندها يستطيع الوصول للتعافي.
3- الاندماج:
الاندماج هو المضي قدماً في الحياة بعد التعافي، وهو يعتمد بشكل أساسي على التمرن على مواجهة الحياة اليومية بأحداثها المختلفة دون التأثر بالماضي بنفس الطريقة السابقة، وفي فترة الاندماج يقوم المربي بمساعدة الطفل على تجاوز بعض المشاعر كالحزن بسبب الفقد أو لوم النفس أو أياً ما تبقى من الأفكار والمشاعر السلبية.
ويجدر بنا التنويه أن العلاج يجب أن يتم دائماً من قبل مهنيين محترفين، ولكن من المفيد أن يتعرف الآباء والأمهات والبالغين الآخرين الذين يلتقون بالأطفال الذين يعانون من اضطراب الكرب ما بعد الصدمة على كل ما يتعلق بالعلاج لضمان حصول هؤلاء الأطفال على التفهم والرعاية الجيدة من قبلهم.
_____________________________
(*) استشارية تربوية ومعالج معتمد بالفن.