لا يخفى علينا أن التراكمات السلبية بعد المرور بالكوارث الطبيعية كالزلازل، والأحداث الدامية كالحروب، والتعرض للعنف المتكرر أو الكروب والابتلاءات الحياتية، هي مشاعر لا يخلو منها إنسان منا، وتتباين قدرتنا على التعافي كل حسب طبيعة نفسه.
فمنا من يتجاوزها بصورة طبيعية وقتية، ومنا من تتملكه المشاعر السلبية، فلا يستطيع الفكاك منها، ويتمكن منه اليأس والغضب على النفس وعلى الآخرين وجلد الذات التي تصيبه جميعها باضطرابات وأمراض نفسية لا حصر لها.
تلك المشاعر السلبية التي لخصها النبي صلى الله عليه وسلم في كلمتين، هما: «الهم، والحزن»، واستعاذ منهما دائماً نبينا الكريم الذي ما رأى أحداً في هم أو مصيبة إلا واساه، حتى إنه واسى طفلاً مات عصفوره وجلس يلاعبه حتى يهون عليه.
محمد صلى الله عليه وسلم نبي ذلك الدين العظيم الذي تتجلى أهم فوائده في الحياة في أنه مأوى تسكن إليه النفوس المكلومة إثر مرارة الحدث.
التراكمات السلبية بعد المرور بالكوارث والحروب مشاعر تتباين قدرتنا على التعافي منها كل حسب قدراته النفسية
تأصيل إسلامي
ولأن بعضنا في مثل هذه الكروب والحوادث المؤلمة يرى الضرر والابتلاء بطريقته هو وفق ما يعقله بفهمه هو، حتى إن الألم يعميه عن رؤية الخير الكامن خلف كل شر فيزداد همه، وتتأثر نفسه بالحزن، لذلك نجد كتاب هذا الدين المعجز يوجه أتباعه في أكثر كروب حياتهم ثقلاً على نفوسهم وهي الهزيمة، فيقول: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139)، ويقول: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
وعلى المستوى العلاقة الشخصية مع الخالق سبحانه، بعد أن يغرق الإنسان في وحل المعاصي، تراه يفتح أمامهم باب الأمل واسعاً، فيقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
وحين انقطاع الأسباب يجعل له نظرة إلى مسببها سبحانه، فلا يستبد به اليأس والقنوط، ويرتاح قلبه إلى الركون لهذه القدرة المطلقة، فيحكي له قصصاً تجاوز فيها أصحابها أسباب الأرض بقدرة مسببها سبحانه، فيقول: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر: 56).
من هنا نجد الدعوة القرآنية النبوية المتكررة إلى الاحتراز من البيئة السيئة التي تغذي الحزن والهم، من مثيرات الانفعال ومدخلات السلوك، ثم إلى دفع الخواطر السيئة وما تؤدي إليه من الانفعال، ثم يأمر بضبط هذه الانفعالات السلبية واحتوائها عن طريق العقل، وعدم الاستسلام النفسي لها حيث معاودة تغلب هذا السلوك على العقل يجعله متحكماً به حتى يصير عادة، ويصبح التحول عن هذه العادات من الصعوبة النفسية بمكان.
ومع قليل من التأمل، نجد تلك الخطوات القرآنية والنبوية هي نفسها المراحل العملية لعلاج اضطرابات ما بعد الصدمات الذي يعتمد في أساسه على الاستقرار الخارجي والداخلي، والتعبير بطرق مختلفة عما يجول في النفس من أفكار وآلام بشكل فعال، ثم تنظيم الوضع العاطفي والتعامل مع الأفكار السلبية ثم المعالجة والتعافي للرجوع للحياة بمساراتها الطبيعية دون التأثر بالماضي.
الإسلام كمنهج تتجلى عظمته في أنه مأوى تسكن إليه النفوس المكلومة إثر مرارة الحدث
العلاج بالفن
ولعل من أنجح طرق العلاج غير السريرية التي تتبع هذه المنهجية العلاج بالفن، الذي عرَّفته جمعية العلاج بالفن الأمريكية بأنه: «الاستخدام العلاجي لصناعة الفن مع الناس الذين يعانون من المرض والصدمة أو التحديات في المعيشة أو الذين يسعون لتنمية الشخصية، ويمكن للناس زيادة الوعي الذاتي وغيرها من التعامل مع الأعراض والإجهاد والتجارب المؤلمة وتعزيز القدرات المعرفية والتمتع بملذات الحياة من خلال إنتاج الفن والتفكير في المنتجات والعمليات الفنية».
وقد وجد أن الفن وسيلة فعالة في تنمية المهارات والأفكار والمدركات الحسية المرتبطة بالقدرات العقلية، كما يملك القدرة على إظهار التعبير الرمزي، فهو إذن يسهم أيضاً في الإبداع والنمو المجتمعي، وحسب فيليب جونود، فإن للفن قدرة إيحائية بوصفه إفصاحاً عن الواقع، وهو وسيلة فعالة للتواصل بين الأفراد فبوسعه خلق علاقات اجتماعية مختلفة بين الناس.
وقد بدأ العلاج بالفن كمهنة في منتصف القرن الـ20، ونشأ بشكل مستقل في الدول الناطقة بالإنجليزية والأوروبية، ثم أطلق الفنان البريطاني أدريان هيل مصطلح العلاج بالفن في عام 1942، حيث اكتشف هيل الفوائد العلاجية للرسم والتلوين في فترة نقاهته عندما كان في المشفى يتعافى من مرض السل، وكتب أن قيمة الفن تكمن في العلاج، واقترح العلاج الفني على زملائه المرضى، ثم بدأ في عمله بالعلاج بالفن الذي تم توثيقه في عام 1945 في كتابه «الفن ضد المرض».
وبالنظر إلى تاريخ العلاج بالفن، نجد أن التعبير الفني وجد منذ وجود الإنسان الأول، ورسومات الكهوف تشهد بصحة ذلك، وأن رسم ذلك الفنان لتلك الأشياء لم يكن في أغلب الأحيان لمجرد المتعة والفخر بإتقان العمل الفني، بل كانت الأهداف أعمق نفسياً.
فرسومات فناني الكهف كانت تهدف إلى علاقات لا شعورية مع موضوعات رسوماتهم، فلقد رسم ذلك الإنسان العجل البري لينبه بخطره على المجتمع، ورسم أشكال آلهته ليتقرب منها؛ يشكو لها مشكلاته، ويطلب منها الحماية من مخاطر الحياة، وعبر التاريخ نجد أن الإنسان حاول ولا يزال يحاول أن يعبر عن نفسه بالفنون سواء كانت موسيقى، أو فنوناً تشكيلية أو فنوناً مسرحية بوجهها وأشكالها المتنوعة والمتطورة عبر الزمان.
التأصيلات القرآنية والنبوية في رفض المشاعر السلبية يمكن اعتبارها أساساً رشيدًا لما يسمى علاج اضطرابات ما بعد الصدمات
أسس استخدام الفن كوسيلة علاجية
وتناول عبدالمطلب أمين القريطي، في كتابه «مدخل سيكولوجية رسوم الأطفال» أسس استخدام التعبير الفني كوسيلة علاجية، حيث أكد أن:
1- التعبير الفني وسيلة لإسقاط مخاوف الفرد، ومشاعره، وإدراكاته، واتجاهاته، كما أنه وسيلة للتنفيس عن الضغوط، والتوترات اللاشعورية المختزنة، مما قد يعجز الفرد أو يحجم عن الإفضاء به بالطرق المعتادة كاللغة اللفظية في كثير من الأحيان.
2- الفرد ينفس عن انفعالاته، ونزعاته الداخلية، ويجسد عواطفه، وصراعاته، ومشكلاته عن طريق الترميز البصري من خلال الفن، وذلك يساعده على اكتشاف مشكلاته بدلاً من كبتها، والتعبير عن النزعات العدوانية بطريقة مقبولة مما يحقق له التوازن الداخلي، وتعزيز شعوره بالأمن، والثقة بالنفس.
3- إسقاط الصور الداخلية وتجسيدها في رسوم خارجية يؤدي إلى بلورة التخيلات، والأحلام، وتثبيتها في سجل مصور ثابت يعين الفرد على التحرر من قبضة الصراع، والنظر إليها بموضوعية، ومعرفة التغيرات التي تحدث من خلال عملية العلاج بالفن ثم تقييم التقدم العلاجي.
4- الفن وسيلة تعويضية عما يشعر به الفرد من عجز، وقصور نفسي أو جسمي أو اجتماعي، فمن خلال التعبير الفني يمكن أن يشبع الفرد بدرجة ما حاجاته ورغباته المحبطة التي عجز عن تحقيقها في الواقع.
5- التعبير الفني وسيلة ميسورة للاتصال، لا سيما بالنسبة لأولئك الذين يجدون صعوبة ما في الاتصال اللفظي، ويعانون من الوحدة والانغلاق على أنفسهم.
6- يكسب التعبير الفني شعوراً متزايداً بالنجاح والقدرة على الإنجاز، وهو ما يمثل أهمية بالغة لمن لم يتمكنوا من اكتساب مشاعر الثقة بأنفسهم، واختلت صورهم عن ذاتهم من خلال تجاربهم السابقة المقرونة بالفشل والإحباط.
التعافي بالفن لا يتنافى مطلقاً مع التعافي بالدين فالهدف واحد وعمق التجربة الروحية عامل مشترك
هل يتعارض العلاج بالدين مع العلاج بالفن؟
وهنا وجب التنويه إلى أن التعافي بالفن لا يتنافى مع التعافي بالدين وباللجوء إلى جاه الله عز وجل، فالفن في عمقه تجربة روحية يبحث فيها الإنسان عن المطلق، وينشد فيها الخير والحرية والمحبة والسلام، تجربة شخصية أصيلة روحانية متفردة، تتطلب الإخلاص والصدق ووهج الروح وإحساسها الجميل بالمعنى.
وهو، في الوقت ذاته، خبرات مكنونة تحتضن نبل الإنسان؛ أشواقه ورغباته، وتطلعه للتطهر والوصول إلى الحقيقة، محتواها النهائي هو الإنسانية الخالصة.
والدين والفن يشتركان في القضية نفسها؛ قضية الإلهام الإنساني المعبر عنها بطرق مختلفة، فالدين يؤكد الخلود والمطلق، وتؤكد الأخلاق الخير والحرية، ويؤكد الفن الإنسان والخلق، وهي كلها في أساسها نواح مختلفة لحقيقة واحدة يتم التعبير عنها بلغة قد تكون قاصرة في إيصال المعاني، لكنها اللغة الوحيدة المتاحة، كما قال المفكر الإسلامي علي عزت بيجوفيتش.
____________________________
(*) استشارية تربوية ومعالج معتمد بالفن.