منظر الدمار الهائل، والانقلاب العظيم الذي حوّل المدن الآمنة والقرى الوادعة على سطح الأرض إلى ركام وأطلال، وموت وخراب، وبطء في المساعدة والإنقاذ.. لم يعد هناك مفر من انتظار رحمة الله بعباده.. قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر: 67)، سبحانه له مقاليد السماوات والأرض، كأنه يريد أن يذكرنا بقوته التي يتجاهلها الأقوياء المغرورون من البشر، فقدم لهم الدليل على طلاقة قدرته، وأنهم أضعف من أن يقيموا كونا على قدر مقاييسهم. سموها ثورة الطبيعة أو غضب الأرض والسماء، حسبوها بمعايير حركة باطن الأرض أو ظواهر الكواكب والنجوم، تصوروا أن إمكاناتهم العلمية قادرة على صناعة الزلازل أو تفجير البراكين.. تناسوا هيمنة القادر الجبار صاحب الطبيعة والأرض والسماء.. واندفع بعضهم بهمجيته ووحشيته إلى السخرية ممن طالهم الزلزال في سورية وتركيا، فضلاً عن الشماتة الرخيصة في آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المصابين، ناهيك عمن طمرهم الركام تحت الأنقاض وصاروا في عداد الشهداء!
مشهد يخلع القلب
في القرآن الكريم سورة اسمها «الزلزلة» تتحدث عن يوم القيامة، وكأنها تشير إلى الزلزلة الدنيوية التي شهدناها ونتابع آثارها، وكأن الزلزلة الدنيوية صورة مصغرة من زلزلة الآخرة: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا {1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا {2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا {3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا {4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا {5} يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ {6} فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ {8}) (الزلزلة).
هذا ما رأيناه بصورة مصغرة في تركيا وسورية قبل أيام، وما زالت توابعه وآثاره تتحرك من حين لآخر، وتضع العالم كله في دائرة رد الفعل والتأمل والتفكر، (وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا)، مشهد من القيامة حين تضطرب الصورة اضطراباً شديداً، وترتجف الأرض الثابتة ارتجافاً، وتزلزل زلزالاً، وتنفض ما في جوفها نفضاً، وتخرج ما يثقلها من المحتويات والأموات، مشهد يخلع القلوب، ويهز الثوابت، وهو ما يدفع لاسترجاع ما جرى لأقوام سابقين، من عقاب فيه الزلازل والبراكين والسنين ونقص الأموال والثمرات وخسف الأرض.. وغيرها، بعد أن أنذرهم وأعطاهم فرصة للمراجعة والتوبة والإقلاع عن الخطايا ولكنهم لم يستجيبوا، مثلاً قوم لوط: (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ {82} مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود)، وقوم فرعون: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ) (الأعراف: 133)، وقارون: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) (القصص: 81).
يد الله فوق أيديهم
إن الزلازل مع ألوان التقلبات الطبيعية الأخرى تعبير حي وعملي عن قدرة الله غير المحدودة، في إظهار هيمنته على العالم، ووحدانيته المطلقة، وأنه فوق كل قوة ترى في نفسها قوة لا تقهر، وكأنه يقول لهم: كلا، إياكم والغرور ونسيان من خلق الكون، الذي سخره للإنسان وذلل له مخلوقاته الأخرى، وهو في كل الأحوال يذكر من ينسى، بأن يد الله فوق أيديهم! هو التخويف لمن لا يخاف: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) (الإسراء: 59)، وَسبحانه يعلم أن بعضهم بعد تخويفه يزداد طغياناً كبيراً؛ (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً) (الإسراء: 60).
روي أنه في عهد عمر بن الخطاب زُلزِلت الأرض حتى اصطفقَتِ السُّرر، فخطَب عمر الناس فقال: أحدثتم وعجلتم، لئنْ عادت لأخرجنَّ من بين ظهرانيكم، وذُكر أيضاً أن الكوفة رجفت على عهد عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه؛ أي يخوفكم بالآيات لتتوبوا إليه.
وقد تكون الزلزلة تنبيهاً وإيذاناً بحدوث أمر عظيم، فقد زلزلت الأرض يوم ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الزلزلة التي هزت إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة!
تعاطف وتطوّع
وأياً كان الأمر، فالأحداث الكبرى في أمتنا والعالم، ومنها الزلازل، تنبئ عن دروس وعبر شتى، تفيد منها الأمة والإنسانية، ولعل أول هذه الدروس وأهمها هو التضامن العربي والإسلامي والدولي مع الشهداء والمصابين والمشردين، وقد عبر كثير من العرب والمسلمين والعالم على المستويين الشعبي والرسمي عن تعاطفهم واستعدادهم للتطوع في عمليات الإنقاذ والمساعدة لمن أصابهم الزلزال في تركيا وسورية، ومن الدروس المهمة ارتباط عمليات الإنقاذ بالإيمان والتسليم بقدر الله، وقد شاهد العالم تكبير المنقذين وهم يعثرون على طفل حي أو إنسان ما زال يتنفس، وكان صوت «الله أكبر» علامة مميزة للهوية الإسلامية على مستوى العالم، المسلمون في كل مكان مشدودون إلى أماكن الزلزال يترقبون إنقاذ روح توحد الله، ويتابعون على مدار اليوم والليلة، ما يجري في البلدين المنكوبين!
ومن الدروس المهمة أخذ الحيطة والحذر والاستعداد لمثل هذه الأحداث، ولم يعد توفير المعدات وتجهيز أطقم الإنقاذ، وتخزين البدائل لإيواء المشردين، وأماكن الإسعاف والعلاج؛ ترفاً أو مسألة يمكن تأجيلها لحين وقوع الحدث، ويرتبط ذلك بمدى قدرة الدولة واهتمامها برعاية مواطنيها، وقد حققت تركيا في هذا السياق تقدماً ملحوظاً، فقد خرج المعنيون من أكبر مسؤول إلى أصغر موظف، لمتابعة الحدث من أول لحظة واستمروا في المتابعة داخل المواقع المتضررة، ومكاشفة الشعب والعالم بالحقائق المباشرة دون تعمية أو تضليل، وقال الرئيس التركي أردوغان: من مات لا نستطيع إحياءه، لكن ما تهدم في المدن العشر سوف نعيد بناءه في عام واحد على أحدث نظم البناء، ويتم تسليمه دون تحمل ساكنه ليرة واحدة، وقد خصصنا 100 مليار ليرة (5.26 مليارات دولار) دفعة أولى، تحت تصرف مؤسساتنا للمساعدات الطارئة وأنشطة الدعم، ولن نسمح باستمرار بقاء المواطنين في الشارع أو الخيام، وقد تعاقدنا مع عدد من الفنادق في عدة مدن لاستضافة المنكوبين لحين تجهيز مساكنهم، وكان الرئيس التركي قد أرسل الطائرة الرئاسية للمشاركة وسرعة نقل 16 رضيعاً تم إنقاذهم من تحت الأنقاض في المناطق المنكوبة إلى المستشفيات في العاصمة أنقرة، وقبل ذلك كانت الحكومة التركية قد أقامت آلاف الخيام لإيواء الذين فقدوا مساكنهم، وعشرات المستشفيات الميدانية للإسعافات والعلاج، وتوفير وسائل النقل البري والجوي لنقل من تستدعي حالتهم العلاج في المستشفيات المتخصصة.
على الصعيد الشعبي الإسلامي، بذل أفراد وجمعيات جهوداً ليست هينة، ونشرت الوكالات صورة لمواطن بسيط من أذربيجان يقود سيارته نحو الأماكن المتضررة (2000 كم)، وقد حمل السيارة ما تستطيع من أغطية وملابس وطعام ليقدمه إلى المتضررين، كما نشرت صورة أخرى لصاحب محل كبير في إسطنبول وهو يتبرع بمحتوياته الغذائية وأدواته المنزلية لمن أصيبوا في الزلزال، ومن ذلك كثير.
حالة سيئة للغاية
على الجانب السوري، كانت الحالة سيئة للغاية، فقد وجه النظام الحاكم في دمشق المساعدات الخارجية إلى المناطق التي يسيطر عليها، وترك المناطق الأخرى التي تضررت، وعاشت محنة مزدوجة بين قسوة البرد والثلوج والأمطار من ناحية وعذابات الدمار والخراب والعيش في الخيام المهترئة من ناحية أخرى، لقد ألقى النظام باللوم على ما يسمى العقوبات الدولية، ولكن هذه الدول أعلنت أن قراراتها تستثني الحالات الإنسانية، وعلى أي حال فقد كان هناك ما يشبه الاتفاق الضمني بين الدول الغربية ومن يقاتلون الشعب السوري على قتل المزيد من الأبرياء جوعاً وبرداً وعذاباً، وكان غريباً أن تنقل الوكالات عن إيران أنها ستقدم المساعدة إذا كانت سورية تحتاج إلى ذلك! مع أنها واحدة من دول احتلال لسورية في العرف الدولي! بينما كان المتطوعون الأفراد والجمعيات يدخلون إلى المناطق السورية التي لا يسيطر عليها النظام، لمحاولة تقديم ما يستطيعون!
شماتة ووقاحة وقبح
وبصفة عامة، فقد كان موقف الغرب العملي- بعيداً عن التصريحات الإنشائية- مائعاً ومتراخياً، وكأنه يشمت في صمت، ولكن مجلة «شارلي إبدو» فجّرت الصمت الصليبي، وكشفت قبحه الوحشي، وهمجيته الرخيصة، حين صاغت كاريكاتيراً ساخراً من الزلزال والشهداء والمصابين والمشردين، فقد نشرت المجلة الفرنسية عبر حسابها الرسمي في «تويتر»، صورة تُظهر بناءً مدمّراً، أرفقته بعنوان «زلزال في تركيا.. لا داعي لإرسال الدبابات»، في سخرية من الدمار الذي لحق بالبلاد بسبب الزلزال.
لقد أثار منشور مجلة «شارلي إبدو»، ردود فعل ساخطة وغاضبة في العالم، تنتقد ما أقدمت عليه المجلة الفرنسية بذريعة حرية الرأي والتعبير، وأدان الأزهر الشريف ما أقدمت عليه المجلة من ترويج لخطاب الكراهية، وانتفض أصحاب الضمير الحيّ في الغرب الصليبي لانتقاد ما أقدمت عليه المجلة الفرنسية العنصرية، ووصفت وسائل إعلام ووكالات عالمية، أبرزها وكالة «الأناضول» التركية، ما نشرته مجلة «شارلي إبدو» بأنه جريمة كراهية، كما رأى مغرّدون بأنّ منشور «شارلي إبدو» فيه سخرية وشماتة بحقّ تركيا، ويشكل استفزازاً للمسلمين، وعدّ مغردون آخرون كذلك أنّ هذه هي القيم الأوروبية التي يريدون تبشيرنا بها.
موت الحضارة الغربية
ورأت الكاتبة، كاريل فلانسي، أن الكاريكاتير مخز! لأنه يسخر من معاناة آلاف من الأشخاص، وقال الكاتب البريطاني حمزة تسورتزيس، في تدوينه بحسابه الموثق على «تويتر»: إن ما فعلته «شارلي إبدو» يعد دليلًا جديداً على موت الحضارة في فرنسا العلمانية، كما قال الشاعر والروائي العراقي العالمي سنان أنطون: إنّ مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية معروفة بعنصريتها، وأكد أنّ هذا الكاريكاتير يسخر من ضحايا الزلزال بكل حقارة!
ووصف علي القره داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ما قامت به المجلة بأنّ هذه هي أخلاق الإنسانية التي يتبجحون بها، لا نقابل جهلهم بجهل، ولا نشمت أو نبتهج بموت أو مصيبة حلت بمن لا يؤمن بديننا.
وقال الصحفي التركي شافاك ملاطيا: إنه يدرك جيداً ما تحاول «شارلي إبدو» الوصول إليه، وكان يأمل أن يتصرف طاقم المجلة الصحفي بمزيد من الإنسانية على غرار فريق الإنقاذ الفرنسي الذي انتقل من تولوز إلى إسطنبول ثم إلى أضنة.
خطاب الكراهية
وأدان مرصد الأزهر لمكافحة التطرف الرسومات غير الإنسانية الساخرة التي نشرتها مجلة «شارلي إبدو» تعليقًا منها على كارثة الزلزال في تركيا، وأكد المرصد أن تلك الرسومات تُعدُّ نوعًا من أنواع خطاب الكراهية التي تحرمها وتجرمها الأديان كافة والمواثيق والأعراف الدولية.
وأشار المرصد إلى أن الاستهزاء بآلام المنكوبين والتلاعب بالمشاعر الإنسانية لا يمت بصلة لحرية التعبير، كما ناشد وسائل الإعلام في أنحاء العالم بضرورة الالتزام بالميثاق الخلقي والمهني دون السعي وراء تصدر المشاهدات.
ومهما يكن من أمر، فإن واجب المسلمين الاستيقاظ من الغفلة، والإعداد للطوارئ، والاعتماد على الله ثم على أنفسهم في مواجهة تقلبات الأيام، ومن الطبيعي ألا ينتظروا من الآخرين- وخاصة إذا كانت الروح الصليبية تحكم تصرفاتهم- نجدة أو إغاثة، وساعتها لن تهزأ بهم «شارلي إبدو»، أو دعاة العلمانية من ببني جلدتنا.