هناك حرب عالمية ثقافية تقوم على تشكيل الصور الذهنية، واستخدامها في التأثير على اتجاهات الجمهور، وفي هذه الحرب يتم استخدام المناهج التعليمية ووسائل الإعلام.. وعندما تنجح دولة في بناء صورة إيجابية لنفسها فإنها تتمكن من زيادة قوتها الناعمة.
كما تعمل كل دولة لتشكيل صورة سلبية نمطية لأعدائها، وكان من نتائج ذلك تزايد العنصرية والكراهية وتزييف وعي الشعوب وتشويه التاريخ.. واستخدمت أمريكا سيطرتها على النظام الإعلامي العالمي في تشويه صورة الإسلام لمنع الشعوب الغربية من الحصول على المعرفة عنه، لأنها تعرف ما يتمتع به الإسلام من جاذبية لكل من يحصل على المعرفة الصحيحة عنه.
الدولة العثمانية
قامت الدول الغربية باستخدام كل وسائل التأثير على الجماهير في تشكيل صورة نمطية سلبية للدولة العثمانية؛ بهدف الانتقام من هذه الدولة التي أسقطت الإمبراطورية البيزنطية، وحققت الكثير من الانتصارات على أوروبا.
بذلك، شكل الثأر التاريخي دافعاً لإنتاج الكثير من المضمون الذي حملته وسائل الإعلام، وتم استخدامه للصراع مع هذه الدولة لمنع أي احتمالات لعودتها، وربط الغرب هذه الدولة بالإسلام، فكثيراً ما يتم وصف المسلمين بالأتراك، وهذا يشير إلى إدراك الغرب للدور التاريخي المهم للأتراك في زيادة قوة الإسلام، ولخداع المسلمين في بعض الدول بأن الغرب لا يحارب الإسلام لكنه يحارب الأتراك.
ونجح الغرب بذلك في خداع الكثير من الجماهير في العالم العربي، وتطابق هذا المخطط مع اتجاه النظم العربية التي تشكلت عقب الحرب العالمية الأولى، التي عملت الدول الاستعمارية على دفع شعوبها لنسيان الأمجاد والانتصارات والإنجازات الحضارية للدولة العثمانية.
النظم الاستبدادية تشارك في تشويه الصورة!
يمكن أن نلاحظ بوضوح أن النظم العربية الاستبدادية ساهمت في تشويه صورة الدولة العثمانية؛ حيث ارتبط ذلك بالصراع مع الحركات الإسلامية، والعمل لاستئصالها، وفرض العلمانية والتبعية للغرب على الشعوب، وتصوير الاستعمار الغربي بأنه حقق التقدم في هذه الدول العربية.
هذا يعني أننا يجب أن نعيد الوعي لشعوبنا بالارتباط بين الاستعمار والاستبداد والعلمانية والعملية الممنهجة لتشويه صورة الدولة العثمانية خلال القرنين الماضيين.. فالاستعمار يعمل لمنع الاتصال بين الترك والعرب خوفاً من مرحلة جديدة يمكن أن يتشكل فيها تحالف يزيد قوة الأمة الإسلامية.
في ضوء ذلك، يمكن أن تتضح خطورة الدور الاستعماري في تشكيل صورة سلبية للدولة العثمانية تمنع حدوث تكامل ثقافي وتحالف سياسي واقتصادي وعسكري بين تركيا والعرب يمكن أن يشكل قوة جديدة للأمة الإسلامية.
أما النظم المستبدة، فإنها تدرك أن الديمقراطية سوف تزيد قوة الحركة الإسلامية التي تتطلع لزيادة قوة الأمة عن طريق قيام تحالف حقيقي بين العرب وتركيا، خاصة بعد أن تمكنت تركيا خلال العقدين الماضيين من بناء قوة صلبة، وتطلعت لبناء قوتها الناعمة في العالم العربي، وهذا ما حدث خلال العقد الماضي؛ حيث تطلعت الشعوب العربية التي تكافح لبناء نظم ديمقراطية إلى الاستفادة من النموذج التركي، لذلك ارتبط العداء للحركة الإسلامية باستخدام الدراما لتشويه صورة الدولة العثمانية.
الدراما الشامية.. وتشويه التاريخ
تزايد خلال العقد الماضي استخدام الدراما في تشويه صورة الدولة العثمانية، حيث قام النظام السوري بإنتاج عدد من المسلسلات التي تشوّه صورة الدولة العثمانية، كما تم إنتاج مسلسلات في دول أخرى مثل «ممالك النار»، و«طومان باي»، ومن الواضح أنه تم الاستقرار على استخدام الدراما في حرب الصور، ففي هذه المسلسلات يتم ترويج الأكاذيب وأنصاف الحقائق، حيث يعتمد مؤلف الدراما على اختيار الوقائع والأحداث التي تخدم هدفه دون الاهتمام بالحقيقة التاريخية.
مع ذلك، يمكن أن نكتشف أن الدراما التركية التي ركزت على نشأة الدولة العثمانية كانت أكثر تأثيراً على الشعوب العربية بالرغم من أنها ناطقة باللغة التركية.. لماذا؟!
توضح مشاهدة الشعوب العربية وإعجابها بمسلسل «قيامة أرطغرل» أن الدول العربية تحتاج إلى نوعية من المسلسلات التي يمكن أن تلبي شوقها للمجد والانتصارات والعزة والعدل، وجاء مسلسل «أرطغرل» ليلبي هذه الحاجة.
حرب الصور.. مرحلة جديدة
شكلت الدولة العثمانية مرحلة مهمة في تاريخ الأمة الإسلامية تميزت بالقوة في مواجهة الغرب؛ فهذه الدولة ربطت من البداية بين القوة الصلبة والتمسك بالمبادئ الإسلامية، ومن أهمها العمل لتحقيق العدل، وكان هناك الكثير من الحقائق التي تشكل الفخر في نفوس المسلمين بالإنجازات الحضارية العظيمة التي حققتها هذه الدولة.
لذلك، تحتاج الأمة الإسلامية إلى نوعية جديدة من المؤرخين الذين يمتلكون شجاعة القلب والضمير لإعادة دراسة تاريخ الدولة العثمانية بعمق لتوضيح الحقائق أمام الشعوب، وإسقاط الخرافات التي روَّجها الغرب والدول المستبدة عن هذه الدولة.
هذه الدراسات التاريخية التي يمكن أن ينتجها هؤلاء العلماء يمكن أن تشكل أساساً لصناعة دراما جديدة متحررة من السيطرة الاستبدادية ومن التبعية للغرب؛ فهذه الصناعة يمكن أن تشكل مصدر قوة للأمة الإسلامية كلها، وانتصاراً في حرب الصور.
إن تجربة الدولة العثمانية تتميز بالثراء، ويمكن أن تضيء للأمة الإسلامية الطريق لبناء المستقبل، فالتاريخ الذي يحمل الإنجازات الحضارية والانتصارات يحرك أشواق الشعوب للمجد، فتنتفض، وتبدع وتبتكر، وتشكل الرأي العام، وتحقق النهضة.
وهناك الكثير من القادة المتميزين في الدولة العثمانية يمكن أن تشكل سيرتهم -عندما يتم تحويلها إلى دراما- وسيلة مهمة لتأهيل قيادات المستقبل؛ بتعليم شباب الأمة القيادة القائمة على المعرفة والأخلاق وخدمة الأمة وتحقيق إنجازات وانتصارات عظيمة.
وأنا أطور علم القيادة تمنيت أن أكتب مسلسلات محمد الفاتح، وسليم الأول، وسليمان القانوني.. لكن أين الشركات التي يمكن أن تقوم بإنتاج هذه المسلسلات؟ وأين قنوات التلفزيون التي يمكن أن تقوم بإذاعتها؟! لكنني ما زالت أمتلك حلماً ورؤية للمستقبل.