تعتبر مدينة نابلس الواقعة شمالي الضفة الغربية وعلى بعد 60 كم شمال مدينة القدس المحتلة واحدة من أهم المدن التاريخية في فلسطين، وتتمتع بموقع إستراتيجي بين جبلي عيبال وجرزيم، وهي المركز الحضاري والتجاري الأكبر في فلسطين منذ آلاف السنين.
هذه المدينة التي يطلق عليها الفلسطينيون اسم «جبل النار»، كانت على مدار التاريخ محضناً مهماً للثورة الفلسطينية والانتفاضات والهبات المختلفة منذ أن وقعت تحت الاحتلال البريطاني مطلع القرن الماضي.
فقد كان أحد مصانع الصابون التي تشتهر به نابلس منذ آلاف السنين أول مكان لعقد قيادة ثورة عام 1936، كما كان لحاراتها المختلفة التي تتربع في قلب بلدتها القديمة، مثل: الياسمينة، القريون، العقبة، القيسارية، الحبلة، الفقوس، النصر، والغرب؛ دور كبير في قيادة هذه الثورات منذ اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1978، ثم انتفاضة الأقصى عام 2000، وخرج منها عدد من المقاومين الذين نفذوا سلسلة عمليات هزت الكيان العبري.
وشارك أبناء المدينة بقوة في هبة عام 2015، وما عرف بهبة القدس، حيث نفذ أبناؤها عدة عمليات فدائية في بعض المستوطنات المحيطة المدينة، أهمها عملية إيتمار الشهيرة.
وتعرضت مدينة نابلس كبقية مدن الضفة الغربية لمحاولة مزدوجة من قبل السلطة الفلسطينية والاحتلال بمساعدة المخابرات الأمريكية لخلق جيل فلسطيني جديد يؤمن بالسلام ويكفر بالمقاومة كسبيل لتحرير فلسطين وما عرف باسم «الفلسطيني الجديد».
ضخ الأمريكيون مئات ملايين الدولارات لإيجاد هذا الجيل، وخلق هذه الحالة التي استمرت لسنوات في الضفة الغربية منذ عملية «السور الواقي» عام 2002، وحتى «هبة القدس» عام 2015؛ إلا أنها فشلت بامتياز بعد أن استشعر أبناء هذه المدينة بمختلف توجهاتهم بضرورة النهوض بالواجب، فكانت «عرين الأسود» التي ظهرت في صيف 2022، وهو تشكيل مقاوم جديد يتكون من مجموعة من الشباب الذين توحدوا حول خيار المقاومة دون النظر إلى أي أيديولوجيات.
هؤلاء الشباب تجمعوا حول مؤسس العرين الشهيد محمد العزازي (أبو صالح)، ورفيق دربه الشهيد عبدالرحمن صبح، وصديقهما المعتقل مصعب أشتية، يتدارسون ما وصل به حال الشعب الفلسطيني في ظل الاعتداءات اليومية على مقدساته وحرائره؛ فتعاهدوا على المقاومة تحت هذا المسمى «عرين الأسود».
بعد الإعلان مباشرة كانت هناك سلسلة عمليات فدائية للعرين الذين أعلنوا عن شعارهم وميثاقهم، وخرجوا في استعراض عسكري كبير لهم بمشاركة العشرات من المسلحين باللباس الموحد.
هؤلاء الشباب الذين جلهم في العشرينيات من العمر، ورغم اختلاف مشاربهم الفكرية، فقد ظهرت عليهم ملامح التدين بشكل واضح، وذلك من خلال تعاملهم مع الناس وعوائلهم ووصاياهم لأطفالهم التزام حفظ القرآن الكريم، فكان خطابهم الديني يفوق خطاب أبناء الحركات الإسلامية إضافة الى التزامهم الكبير.
حالة التدين هذه التي ظهرت على أبناء العرين هي نتاج سنوات من العمل الدعوي الصامت من خلال القدوة الحسنة، فقد تأثروا كثيراً بزميلهم مصعب أشتية ابن «كتائب القسام» الذرع العسكرية لحركة «حماس»، سواء على مستوى أخلاقه وتعامله وتضحياته قبل أن يتم اعتقاله من قبل السلطة الفلسطينية قبل 5 شهور.
هذا التأثر بمصعب كان سبباً مباشرة لتدين هؤلاء الشباب؛ ليصنع عندهم تحولاً فورياً في أفكارهم ليتركوا كل أيديولوجياتهم جانباً ويتبعوا طريقاً واحداً هو طريق المقاومة.
العمل الدعوي الذي قام به مصعب مع هؤلاء الشباب وربما ساعده آخرون لا نعرفهم قاد إلى عمل جهادي عظيم، وأصبح اسم «عرين الأسود» يحسب له ألف حساب من قبل الاحتلال ومن تعاون معهم وحاول احتواء هذه الظاهرة.
التأثر بالقدوة الحسنة في هذه الحالة جعل من شخص واحد عمل مع فئة ما في دائرة معينة تأثيره يفوق عمل تنظيم لعشرات السنين.
ربما ساعد مصعب تطورات التعبئة المعنوية لهؤلاء الشباب الذين على مدار سنوات ماضية تأثروا بالحروب على غزة لا سيما بعد معركة «سيف القدس»، وذلك بعد حالة من الشلل أصابت المقاومة في الضفة الغربية.
حالة الشلل التي أصابت مقاومة الضفة خلال سنوات عجاف مضت غذتها السلطة والاحتلال اللذان أدركا أن هذه الحالة هي الوضع المناسب والحالة المثالية التي تتيح للسلطة أن تهيمن على كل مفاصل العمل في الضفة، وتحيّد جل الأنشطة، وتسيطر على كل شيء، وتحاول ترويض الجيل الجديد وتصرفه عن المقاومة لخلق «الفلسطيني الجديد».