يحكى أن الشاعر محمد بن زريق البغدادي كان يحب ابنة عمه حباً شديداً، لكنّ ما به من ضيق العيش وقلة ذات اليد حمله على الرحيل طلباً للرزق؛ الأمر الذي لم ترضَ عنه ابنة عمه، ومع ذلك فقد أخذ برأيه وقصد أبا الخبير عبدالرحمن الأندلسي في الأندلس، ومدحه بقصيدة بليغة، فأعطاه عطاء قليلاً، فقال ابن زريق وقلبه يعتصر ألماً: «إنا لله وإنا إليه راجعون! سلكتُ القفار والبحار إلى هذا الرجل، فأعطاني هذا العطاء!»، ثم انزوى يتذكر فراق ابنة عمه وما بينهما من بُعد المسافة، وما تحمَّله في سبيل هذا السفر من مشقة وبذل مال وبُعد عن الأهل والأحبة، فاعتلّ غمّاً ومات.
ولما تفقدوه وجدوه تحول إلى جثة هامدة، وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه القصيدة الفراقية الحزينة التي تفيض رقة وحناناً:
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي لَومهُ حَداً أَضَرَّبِهِ
مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ
فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ المَهرِ أَضلُعُهُ
يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التفنيدِ أَنَّ لَهُ
مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ
رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحَلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ الأَرضِ يَذرَعُهُ
إِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً
وَلَو إِلى السَندِ أَضحى وَهُوَ يُقطعُهُ
تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه
للرزق سعياً ولكن ليس يجمَعُهُ
وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ
رزقَاً وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ
قَد قسَّمَ اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ
لَم يَخلُق اللَهُ مخلوقاً يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى
مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ
وَالحِرصُ في الرّزق وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت
بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ
وَالمَهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه
إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوُ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذبث اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ
عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ
بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ
وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا
شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ
اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ
كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ