توفر الانتخابات التركية فرصة لزيادة قدرتنا على تحليل مضمون وسائل الإعلام الغربية، حيث تبرهن على أنها لا تقوم بوظيفتها في الوفاء بحق الجماهير في المعرفة، وأنها تقوم بتجهيل الشعوب، فوسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية اتفقت على أن الانتخابات التركية أخطر انتخابات يشهدها العالم، وهذا يعني أهمية الحدث، وأنه يستحق تغطية شاملة ومتعمقة تتناسب مع أهميته، وأن وسائل الإعلام يجب أن تعتمد على مصادر متعددة ومتنوعة في الحصول على المعلومات، وأن تلتزم بالعدالة والموضوعية، وتفتح المجال لعرض وجهات النظر المختلفة.. فهل التزمت وسائل الإعلام الغربية بذلك؟!
لكي نستطيع تقييم تغطية وسائل الإعلام الغربية لهذه الانتخابات، فإننا يمكن أن نبدأ ببعض الحقائق التي تجاهلتها وسائل الإعلام الغربية، لأنها تشكل تحدياً للفكر الاستعماري الغربي، لذلك حرصت هذه الوسائل على التعتيم عليها، وحرمان الشعوب الغربية من معرفتها، وهذا يساهم في تطوير جوانب جديدة في نظرية التحيز، ويفتح المجال لدراسة ما تحاول وسائل الإعلام التعتيم عليه وتجاهله، وعدم الاكتفاء بتحليل مضمون ما تنشره!
النموذج التركي للديمقراطية!
توضح الانتخابات أن تركيا تمكنت من بناء نموذج متميز للديمقراطية تتحدى به الديمقراطية الغربية، وتبرهن على قدرة الدولة التركية على إدارة الصراع السياسي والأيديولوجي بشكل يضمن الاحتكام إلى مجموعة من القيم والأحكام التي يحترمها الجميع.
من أهم تلك الأحكام أنه بالرغم من حدة الصراع، فإن الجميع احترم إرادة الشعب التركي، وخضع لها، في جولتي الانتخابات التي شهدت نسبة مشاركة تجاوزت 80%، وهي نسبة لم تشهدها أي دولة في العالم، فكل تركي كان حريصاً على صوته الذي يرى أنه يساهم به في بناء مستقبل الدولة.
وبالرغم من الإقبال الشديد جرت الانتخابات في جو من الهدوء والاحترام، لا يستطيع أي مراقب منصف سوى أن يعبر عن إعجابه بالسلوك الحضاري للشعب التركي، والتزامه بالأخلاق العالية، وحرصه على إتاحة الفرصة للجميع للقيام بمسؤوليته في بناء مجتمعه على قاعدة احترام إرادة الشعب.
درس للعالم في حرية الانتخابات
تستحق الانتخابات التركية إعجاب كل من تابعها من الصحفيين والمحللين، حيث إنها لم تشهد أي حالات يمكن أن تثير الشك في حريتها ونزاهتها، فكل الأحزاب وضعت مندوبيها داخل اللجان ليتابعوا بشكل دقيق عملية الانتخاب، ويمكن أن يعترض مندوب أي حزب على أي خطأ، وتمت عملية الفرز داخل اللجان بحضور كل المندوبين، وتوقيعهم على محاضر الفرز، وقامت وسائل الإعلام بنقل النتائج إلى الجمهور الذي يتابعها بشغف.
هذا يعني أنه لا يمكن أن يشكك أحد في نزاهة الانتخابات، وأنها تعبر عن إرادة الشعب، وأن نتيجة هذه الانتخابات تحدد بدقة المشروع الذي اختاره الشعب التركي ليبني على أساسه مستقبله، وأن هذه الانتخابات يمكن أن تلهم الشعوب العربية، وكل شعوب دول الجنوب للكفاح لبناء نظم ديمقراطية تعبر عن إرادتها.
إنجاز حضاري
إن أعظم إنجاز حضاري هو أن تفرض الأمة إرادتها، وتبني مستقبلها باختيارها الحر للمشروع الذي يعبر عن حقها في الحياة والاستقلال، ومن المؤكد أن الشعب التركي استطاع أن يفرض إرادته، وبذلك فاز هذا الشعب في انتخابات حرة.
وبدراسة تجارب دول منطقة الشرق الأوسط، تتضح أهمية هذا الإنجاز الحضاري، فلماذا تجاهلت وسائل الإعلام الغربية والعربية هذا المعنى، وحرمت الشعوب من معرفته؟!
توضح نتائج الانتخابات أن الشعب التركي اختار المشروع الذي يقوده الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يعبر عن استقلال تركيا، وحقها في بناء قوتها الصلبة، لذلك عمل أردوغان على تطوير الصناعات الدفاعية، وأثبت أن تركيا تستطيع أن تبني مكانتها العالمية بعقول أبنائها وخبراتهم وإبداعهم، وأنها لم تعد تحتاج لاستيراد الأسلحة الغربية للدفاع عن نفسها، وأنها تمكنت من بناء صناعة أسلحة تساهم في تقوية اقتصادها، حيث أصبح الكثير من دول العالم تحتاج لاستيراد هذه الأسلحة.
كما يعبر ذلك التيار عن اعتزاز تركيا بتاريخها، وحقها في بناء علاقاتها الخارجية على أساس مصالحها، وبذلك يمكن أن تكون قوة إقليمية لها دورها المهم في بناء مستقبل المنطقة.
لماذا يرفض الغرب استقلال الدول؟!
وهذا يوضح المشكلة، ويكشف أسباب تحيز وسائل الإعلام الغربية ضد تركيا، فالعقلية الاستعمارية ما زالت تحكم دول الغرب التي ترفض استقلال دول الجنوب، وتريد أن تفرض على هذه الدول حكاماً طغاة تابعين لها.
ولذلك يتطابق خطاب السلطات في الدول الغربية مع تغطية وسائل إعلامها للانتخابات التركية، فبايدن أعلن بوضوح أنه يساند المعارضة التركية، وكان تأييد وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية للمعارضة واضحاً، وهاجمت أردوغان وعملت على تشويه صورته بهدف إسقاطه.. لماذا؟!
دول الغرب تدرك تماماً طبيعة المعركة وتفهم نتائجها، فأهم مرتكزات مشروع أردوغان هو استقلال تركيا، ونجاح أردوغان في تحقيق هدفه سيحرك أشواق الأحرار في الجنوب الذين أصبحوا يدركون خطورة التبعية، وكان من الواضح أن الشعوب العربية عبرت عن فرحتها بفوز أردوغان، فهي ترى فيه القائد الذي يعبر عن حلمها في الاستقلال عن الغرب، لذلك يمكن أن تكون الانتخابات التركية مقدمة لعملية تغيير شاملة في المنطقة، وأن الديمقراطية يمكن أن تكون الوسيلة التي تستخدمها الشعوب في فرض إرادتها وتحقيق استقلالها.