ابن تيمية
اعلم أَن حَيَاة الْقلب وحياة غَيره لَيست مُجَرّد الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية أَو مُجَرّد الْعلم وَالْقُدْرَة كَمَا يظنّ ذَلِك طَائِفَة من النظار فِي علم الله وَقدرته كَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، قَالُوا: إِن حَيَاته أَنه بِحَيْثُ يعلم وَيقدر، بل الْحَيَاة صفة قَائِمَة بالموصوف، وَهِي شَرط فِي الْعلم والإرادة وَالْقُدْرَة على الْأَفْعَال الاختيارية، وَهِي أَيْضاً مستلزمة لذَلِك، فَكل حَيّ لَهُ شُعُور وَإِرَادَة وَعمل اخْتِيَاري بقدرة، وكل مَا له علم وَإِرَادَة وَعمل اخْتِيَاري فَهُوَ حَيّ، وَالْحيَاء مُشْتَقّ من الْحَيَاة.
فَإِن الْقلب الْحَيّ يكون صَاحبه حَياً فِيهِ حَيَاء يمنعهُ عَن القبائح، فَإِن حَيَاة الْقلب هِيَ الْمَانِعَة من القبائح الَّتِي تفْسد الْقلب، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «الْحيَاء من الْإِيمَان»، وَقَالَ: «الْحيَاء والعي شعبتان من الْإِيمَان، وَالْبذَاء وَالْبَيَان شعبتان من النِّفَاق».
فَإِن الْحَيّ يدْفع مَا يُؤْذِيه بِخِلَاف الْمَيِّت الَّذِي لَا حَيَاة فِيهِ، فَإِنَّهُ يُسمى وقحاً، والوقاحة الصلابة، وَهُوَ اليبس الْمُخَالف الرُّطُوبَة الْحَيَاة، فَإِذا كَانَ وقحاً يَابساً صَلِيب الْوَجْه لم يكن فِي قلبه حَيَاة توجب حياءه وامتناعه من الْقبْح كالأرض الْيَابِسَة لَا يُؤثر فِيهِ وَطْء الْأَقْدَام بِخِلَاف الأَرْض الْخضر، وَلِهَذَا كَانَ الْحَيِي يظْهر عَلَيْهِ التأثر بالقبح وَله إِرَادَة تَمنعهُ عَن فعل الْقَبِيح بِخِلَاف الوقح الَّذِي لَيْسَ بحيي فَإِنَّهُ لَا حَيَاء مَعَه وَلَا إِيمَان يزجره عَن ذَلِك.
فالقلب إِذا كَانَ حَياً فَمَاتَ الْإِنْسَان بِفِرَاق روحه بدنه كَانَ موت النَّفس فراقها للبدن لَيست هِيَ فِي نَفسهَا ميتَة، بِمَعْنى زَوَال حَيَاتهَا عَنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى في سورة «الْبَقَرَة»: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء) (البقرة: 154)، وَقَالَ تَعَالَى في سورة «آل عمرَان»: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء) (آل عمران: 169)، مَعَ أَنهم موتى داخلون فِي قَوْله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران: 185)، وَفِي قَوْله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر: 30)، وَقَوله: (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (الحج: 66).
فالموت الْمُثبت غير الْمَوْت الْمَنْفِيّ، الْمُثبت هُوَ فِرَاق الرّوح الْبدن، والمنفي زَوَال الْحَيَاة بِالْجُمْلَةِ عَن الرّوح وَالْبدن، وَهَذَا كَمَا أَن النّوم أَخُو الْمَوْت فيسمى وَفَاة وَيُسمى موتا وَكَانَت الْحَيَاة مَوْجُودَة فيهمَا، قَالَ تَعَالَى في سورة «الزمر»: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (الزمر: 42).
وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَيْقَظَ من مَنَامه يَقُول: «الْحَمد الله الَّذِي أَحْيَانًا بَعْدَمَا أماتنا وَإِلَيْهِ النشور»، وَفِي حَدِيث آخر: «الْحَمد لله الَّذِي رد عَليّ روحي وعافاني فِي جَسَدِي وَأذن لي بِذكرِهِ وفضلني على كثير مِمَّن خلق تَفْضِيلًا»، وَإِذا أَوَى إِلَى فرَاشه يَقُول: «اللَّهُمَّ أَنْت خلقت نَفسِي وَأَنت توفاها لَك مماتها ومحياها إِن أَمْسَكتهَا فارحمها وَإِن أرسلتها فاحفظها بِمَا تحفظ بِهِ عِبَادك الصَّالِحين»، وَيَقُول: «بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَمُوت وَأَحْيَا».
___________________________________
من كتاب «أمراض القلوب وشفاؤها».