استلم نور الدين راية جهاد الصليبيين من أبيه عماد الدين زنكي (ت541 هـ)، وقد عمل على توحيد بلاد الشام في إطار جمع الجهود الإسلامية، وحشد مختلف الطاقات لمواجهة العدو المحتل، وقد كان رحمه الله شجاعًا عالمًا بعيد النظر، حيث تيقن من أن القدس ستحرر بإذن الله، وأن قطاف الجهد أضحى دانيًا.
ففي عام 564هـ، أمر أن يُصنع منبر لبيت الله المقدس، ولبى الرجل ما ندب له وبذل النجارون والصناع في صناعته سنين، وأبدعوا في تركيبه الإحكام والتزيين، وجمع نور الدين رحمه الله لهذا المنبر أمهر الصناع، ليبدعوا تحفة رائعة وأثرًا خالدًا، لا ليناسب السلطان وملكه، فقد عُرف عنه التواضع الجمّ، بل ليتناسب مع مكانة ومقام المسجد الأقصى.
بدأ الصناع العمل على بناء المنبر في حلب، قبل تحرير الأقصى بتسعة عشر عامًا، وقد استخدم في صناعته أجود وأفضل أنواع الخشب المتوافرة، من شجر الأرز والأبنوس، وقد كان الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، والجماليات الصغيرة سمةً للعمل، ورُبطت أجزاء المنبر بمسامير خشبية، كما استخدم الحرفيون أسلوب «التعشيق»؛ لكي لا تشوه مسامير الحديد مظهر الخشب المتجانس، وطعّمت أجزاء المنبر بالصدف والعاج.
وكان المنبر يتكون من ثلاثة أقسام: مدخل يتوجه رفرف مقرنص، ودرج، ومنصة مغطاة بجوسق، ومع هذه العناصر الجمالية الرائعة تمتع المنبر بزخارف نباتية وهندسية بديعة التركيب والتنفيذ، كما احتوى على أطباقٍ نجمية متراصة، يشكل كل طبقٍ منها وحدة زخرفية كاملة تتكامل مع الوحدات المحيطة لتشكل نسيجًا زخرفيًا جميلًا، كما يحتوي المنبر على كتابات دالة عن بناء المنبر بأمرٍ من نور الدين رحمه الله، وبعض الآيات القرآنية، كما سجل الصناع أسماءهم على المنبر في خطوة نادرة الحدوث في العمارة الإسلامية، وهي تدلّ على استشعار الصناع أهمية ما يقومون به، ومشاركتهم في التحرير القادم.
ومع هذه الإرادة في الإعداد المسبق لمنبر التحرير، لم يرَ الملك العادل منبره في رحاب «الأقصى»، فقد توفي عام 569هـ قبل تحرير المدينة بزمن، ليتابع صلاح الدين رحمه الله قيادة الجهاد من بعده، وقد أورد أهل التاريخ بأن نور الدين رحمه الله نذر أن يُحمل ذلك المنبر إلى المسجد الأقصى بعد تحريره.
الوفاء بالنذر النوري
واصل صلاح الدين الإعداد لتحرير القدس الشريف، وبعد انتصاره المدوي في معركة «حطين»، أصبح التحرير قاب قوسين، حتى أذن الله تعالى في السابع والعشرين من رجب 583هـ، حُررت المدينة بعد حصارٍ طويل، وظهرت أخلاق المسلمين في صورةٍ من أروع صور التاريخ، وشرع صلاح الدين في عمارة «الأقصى» وإزالة ما استحدثه الصليبيون الفرنجة من إضافات على المسجد المبارك، وأمر بالوفاء بالنذر النوري، ونقل المنبر، الذي بناه نور الدين ليضعه في المسجد الأقصى، إلى موضعه القدسي، فعُرفت بذلك كرامات نور الدين التي أشرق نورها بعده بسنين، وكان من المحسنين الذين قال الله فيهم: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134)، بحسب عبارة عماد الدين الأصفهاني (ت 597هـ).
فأي إرادةٍ لتحرير القدس تلك! وأي يقينٍ انطلق منه نور الدين رحمه الله! ففي الحديث عن تحرير القدس، يكثر الكلام عن الإعداد المادي والعسكري، عن القوة والجند، عن البلاد المفتوحة وحسابات الحرب، ولكن إعداد نور الدين لتلك اللحظة شمل جوانب أخرى، وبلغ درجةً نادرةً من الإتقان واستشراف مآلات الأحداث وتطوراتها، هذه النظرة البعيدة وهذه الكرامة حيث نظر للقدس بعين بصيرته، وأيقن بأن الأسباب التي اتخذها لتحرير المدينة من الصليبيين الإفرنج ستثمر لا محالة، فكان المنبر تجسيدًا لهذا اليقين، ونذره بأن يوضع في المسجد الأقصى، تجلية عملية لذلك.
وأي برِّ ذاك من صلاح الدين يوسف! فقد أنفذ وصية سلفه مع كل ما خاضه من معارك وحروب، والانهماك الشديد بإعداد الخطط وسياسة أمر الناس، فلم يشغله الحصار والمفاوضات مع الفرنجة الغزاة عن هدف وضعه الجيل الأول لتطهير المسجد الأقصى من التزييف والطمس، فلعمري كأن شخصياتهم اشتقت من أسمائهم فهم بين نور الحق وصلاح الناس.
_________________________________________________________________
نقلاً عن مقال بعنوان «منبر النور بصيرةٌ ووفاء وجهاد» للباحث علي إبراهيم.