القضية النسائية واحدة من القضايا التي عني بها الحداثيون والعلمانيون العرب منذ وقت مبكر، فقد افتتح الكتابة فيها مرقص فهمي في أواخر القرن التاسع عشر، وتابعه كثيرون مثل سلامة موسى، وصولاً إلى دعاة القراءة المعاصرة وأبرزهم نصر حامد أبو زيد الذي أصدر كتاباً تضمن مجمل آرائه حول المسألة النسوية تحت عنوان «دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة».
والكتاب ليس مناقشة معرفية هادئة لقضية المرأة، وإنما جزء من السجال الأيديولوجي الذي خاضه مؤلفه في أعقاب الحكم القضائي ضده، ومتأثر به إلى حد بعيد، ورغم هذا يستمد الكتاب أهميته من جهتين:
الأولى: أن مؤلفه طبق خلاله منهجه «التاريخاني» على النصوص القرآنية المتعلقة بالنساء، والثانية: ادعاؤه أن هذا يندرج في إطار «الاجتهاد الإسلامي»، وهو في هذا يخالف مسلك العلمانيين الأوائل الذين لم يتخفوا وراء ستار الاجتهاد، ولم يُلبسوا آراءهم مسوحاً إسلامية.
الاجتهاد و«التاريخانية».. هل يلتقيان؟
أكد أبو زيد، في المقدمة، أن ما يقدمه خلاله ليس إلا «اجتهادات في فهم الكتاب الكريم وفي فهم تعاليم نبيه»، لكننا لا نلبث أن نكتشف أن الاجتهاد الذي يقصده ليس إلا ممارسة «التاريخانية» (أي نزع القداسة عن النص الديني والزعم أنه تشكل عبر التاريخ ومن خلاله، أي هو مرتبط بزمانه لا بزمننا)، وحول هذا المعنى يقول: «تاريخانية» القرآن لا تعني الزمانية، بل تعني أننا ملزمون باستعادة السياق التاريخي لنزول القرآن من أجل أن نفهم مستويات المعنى وآفاق الدلالة!
ووفقاً لهذا تغدو نقطة الانطلاق في فهم النص هي النظر إلى السياق التاريخي والاجتماعي الذي تنزل خلاله وليس في اعتباره نصاً مقدساً، حيث يتم تغييب قائل النص بما له من ألوهية واستحضار المتلقي أو من عاصروا نزول النص وتفاعلوا معه خلال التاريخ، وفي هذا قلب للمنهجية الإسلامية رأساً على عقب؛ ذلك أنها تقدم النص على المتلقي والسياق التاريخي، ولذلك يصفها أبو زيد بأنها «لا تاريخانية»، بل «أسطورية» لا تتورع عن توظيف الأساطير والخرافات لخدمة أغراضها الأيديولوجية، وساق مثالاً لذلك بالإمام الطبري وتفسيره لقصة خروج آدم وحواء من الجنة في الفصل الأول من الكتاب.
منهج القراءة السياقية
كان من الضروري بعد انتقاد المنهجية الكلاسيكية في فهم النص اقتراح منهجية بديلة؛ وهي ما أطلق عليها «القراءة السياقية»، وهي ذاتها القراءة التاريخية لكن أبو زيد تجنب استخدام المصطلح بعد الأزمة التي أحاطت به، وبمقتضى هذه القراءة يعد السياق التاريخي -أي القرن السابع الميلادي- هو الإطار الذي يحدد الباحث من خلاله «بين ما هو من إنشاء الوحي أصلاً، وما هو من العادات والأعراف الدينية أو الاجتماعية السابقة على الإسلام، كما يمكن التمييز في هذه الأخيرة بين ما تقبله الإسلام تقبلاً كاملاً مع تطويره كالحج مثلاً، وما تقبله تقبلاً جزئياً مع الإيحاء بأهمية تطويره مثل العبودية وقضايا النساء والحروب».
وفي إطار القراءة السياقية، وضع أبو زيد 3 مستويات للسياق ينبغي مراعاتها حال التعامل مع النص، هي:
أولاً: سياق ترتيب النزول؛ وهو سياق تاريخي للوحي يتعامل مع السور والآيات وفق تاريخ نزولها من الأقدم إلى الأحدث، وهو يختلف عن سياق ترتيب المصحف الذي لا ترد فيه السور وفقاً للترتيب التاريخي، ولقد درج المفسرون -كما يقول- على تفسير القرآن وفق النهج الأخير «وهو نهج يغفل حقيقة أن ألفاظ القرآن قد أصاب معانيها تطور في سياق السنوات العشرين التي استغرقها الوحي، فاللفظ القرآني ليس من الضرورة أن يدل على نفس المعنى في المواقع المختلفة»، ويفهم من كلامه أن النص القرآني ليس له بنية أو جوهر ثابت يمكن التعامل معه، وإنما هو مجموعة من الألفاظ ذات دلالات متغيرة يمكن تأويلها تأويلاً مختلفاً في كل عصر، بل يمكن تجاوزها بالكلية إذا خالفت مقتضيات العصر.
ثانياً: سياق السرد؛ وهو يتبع السياق السابق، ومن خلاله يمكن التمييز بين ما ورد من الآيات على سبيل التشريع، وما ورد على سبيل مساجلة القرآن لمخالفيه، وما ورد على سبيل الوصف، أو الوعظ، وهي مستويات لا يمكن استنباط تشريعات من خلالها.
ثالثاً: سياق التركيب اللغوي؛ وهو يتناول علاقات الفصل أو الوصل بين الجمل النحوية، والتقديم والتأخير، والإضمار والإظهار وما إلى ذلك، وضمن هذا المستوى يتم توظيف المناهج والأدوات المعاصرة ممثلة في تحليل الخطاب وتحليل النصوص ونقدها وغيرها من المناهج اللسانية التي وظفت في التعامل مع النصوص الدينية الأخرى وأفضت إلى نزع القداسة عنها وتفكيكها.
النص القرآني المتعلق بالمرأة من منظور القراءة السياقية
وانطلاقاً من منهج القراءة السياقية، يتوقف أبو زيد أمام النص القرآني المتعلق بالمرأة، وهو يفترض أن البحث في مسألة حقوق المرأة في القرآن لا بد أن تتم عبر مقارنة بين حقوقها قبل الإسلام وحقوقها بعد الإسلام، مفترضاً أن بينهما منطقة مشتركة بمثابة المعبر؛ وهي التي يؤسس الجديد؛ أي الإسلام، قبوله المعرفي عليها، وهذا التمييز بين الجديد الذي أتى به الإسلام ومنطقة المعبر المشتركة يمثل برأيه «عملية استعادة المعنى الأصلي للخطاب من خلال إعادة زرعه في السياق التاريخي الذي فارقه منذ أربعة عشر قرناً حتى توهم الناس أن كل ما ذكره القرآن عن المرأة تشريع وما هو بتشريع».
وعلى هذا يتتبع النصوص القرآنية المتعلقة بالمرأة ويدرجها ضمن 3 سياقات أساسية، هي:
1- السياق السجالي؛ وفيه يستشف التمييز -كما يزعم- بين الرجل والمرأة، كما في قوله تعالى: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً) (الإسراء: 40)، وهو يستنتج أنها وردت في سياق الرد على المشركين الذين زعموا أن الملائكة إناث.
2- السياق الوصفي؛ وهي الآيات التي تصف حال العرب أو الأمم السابقة لهم، ومن أمثلته ما ورد على لسان امرأة عمران (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) (آل عمران: 36)، ومفاهيم العرب وتصوراتهم التي عبر عنها القرآن بقوله (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (آل عمران: 14)، ومما يندرج في سياق الوصف ولكنه اعتبر تشريعاً مسألة القوامة، وما هي بتشريع؛ لأنها وصف للحال في عصر ما قبل الإسلام، أو بعبارة أخرى وصف للتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين البشر، ولا يقدم لنا أبو زيد برهاناً واحداً على هذا الادعاء، ومع هذا يبني عليه أن تفضيل الرجال لا يمكن أن يكون قدراً إلهياً كما تصور الفقهاء والمفسرون.
3- السياق التشريعي؛ وتعبر عنه الآيات التشريعية في سورة «النساء»، وهي السورة التي وردت بعد معركة «أحد»، ومن ثم تأثرت أحكامها بالسياق التاريخي المأزوم، حيث تناولت أوضاع الزواج وإمكان التعدد، وهو يفترض أن التعدد الذي جاءت به الآية الثانية من السورة هو من قبيل التشريع إلا أنه تشريع مؤقت وليس دائماً، مستدلاً بأن سياق النزول بالإضافة إلى سياق التركيب اللغوي -صيغة الشرط التي تربط بين الإباحة والخوف من العدل- يؤكدان ذلك، ومنشأ اللبس أن التعدد كان عادة قبل الإسلام، وجاء الإسلام ببعض المعايير لتهذيبه وضمان عدم امتهان المرأة، ولكن التأويل الفقهي خرج بها عن ذلك وجعلها تشريعاً مطلقاً، وبعيداً عن هذا تداعى هذا المنطق للمرء أن يتساءل إذا كان التعدد ليس مقصداً قرآنياً؛ فلماذا أبقى عليه القرآن ولم يبطله كما أبطل الوأد والظهار وهي عادات كانت تحظى بقبول في الجاهلية؟ وإذا جرينا على قوله: إنها تشريع مؤقت؛ فلماذا لم يشر القرآن إلى متى وكيف ينتفي هذا التشريع؟
تفضي بنا القراءة السياقية في نهاية المطاف إلى نفي الصفة التشريعية عن القرآن، لأن آياته تغدو إما آيات وصفية تقريرية أو سجالية أو لها صفة التشريع المؤقت الذي يتغير بتغير الزمان، وهو ما يعني أن اجتهاد أبي زيد قد انتهى بنا إلى الخروج عن النص وتجاوزه بدلاً من الاجتهاد فيه.