كانت المرأة قبل الإسلام محتقره مهانة، تعاني الويلات، وتتجرع الحسرات، وتحيطها كل الظلمات؛ بل تتمنى الموت والهلاك في هذه الحياة، ليس لها قيمة ولا وزن ولا حقوق، تباع وتشترى وتدفن وهي حية؛ وما زالت سلعة رخيصة في عصرنا هذا عند الغرب الذين يدعون حفظ حقوق المرأة، فأسسوا جمعيات ومنظمات لحمايتها، وأكثروا الحديث عنها، وتشدقوا بالكلمات الرنانة.
لكن في الواقع هم بعيدون كل البعد عن إنصافها ورفع قيمتها؛ كلماتهم جوفاء، وشعاراتهم براقة، أضحت صورتها وجسدها هدفاً وغرضاً للشعارات، وفرصة لتستغل في ترويج المبيعات؛ بل هدفاً لنشر الرذائل والمحرمات، وهي عرضة للتحرش الجنسي في المؤسسات والطرقات، كما تتعرض للتمييز والعنف بشتى أنواعه في البيوت وخارجها.
أما إذا سلطنا الضوء عن حالها عند العرب قديماً تخالها نذير شؤم، ومحل تعاسة وذم؛ (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) (النحل: 58).
وإذا نظرنا وتأملنا لمكانتها ولحقوقها عند اليهود والنصارى؛ نجدها قد هضمت وسلبت، والأمر كذلك في الحضارات القديمة الأشورية والمصرية والفارسية والبابلية وغيرها؛ فكانوا يستبيحون قتلها ويحرمونها من الميراث، وغيرها من الحقوق الأساسية في الحياة، ويطلقها الرجل لأتفه الأسباب، فيعدها متاعاً ينتفع بها متى شاء، ويتصرف بها كيف شاء، وتطرد في أي لحظة، كما تمنع بالانتفاع بمالها عند البعض، والأكثر من ذلك تحبس في البيوت والخدور، ولا يحق لها التعلم ولا الخروج البتة؛ فهي كالسلعة المخزنة قد سيطر عليها الرجل المتعجرف الطاغية يقودها كيف ومتى شاء!
ولما جاء الإسلام أعلى شأنها ورفع قيمتها، وأسمى بها إلى المعالي، وجعلها مساوية في الحقوق مع الرجل، وهي مشاركه معه في تكوين البشرية والنشأة الإنسانية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء: 1).
وقد أشركها في الأجر مع الرجل، وساوى بينهما في العمل الصالح، قال عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
وقد أهدى لها القرآن الكريم هدية؛ فسميت سورة باسم «النساء» تعظيماً بحق المرأة، وذكر قصص بعض الصالحات في القرآن الكريم، كمريم عذراء عليها السلام، وزوجة فرعون المؤمنة، وغيرهما.
وفي السُّنة المطهرة من كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام مئات الأحاديث بشأن المرأة، ويكفيك حديثه عن النساء ووصيته بحفظ حقها، وشدد على ذلك في خطبة الوداع، حيث قال: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (رواه مسلم، وأبو داود)، ووصيته عليه السلام في آخر حياته في مرض وفاته، عن عليّ رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم» (أخرجه أحمد، وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد»، وأبو داود، وابن ماجه وغيرهم).
وأكثر من هذا، فقد أعلى مقام الأم؛ فرفعها بثلاث درجات على الأب؛ جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: «أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» (متفق عليه).
والله تعالى عين التكريم والتبجيل من ديننا الحنيف، وذلك إنصافاً للمرأة واعترافاً لقدرها، وما تكابده من مشاق الحياة، وخاصة الأم المربية المجاهدة، التي تناضل وترابط وتصابر نفسها لإخراج جيل يعبد الله تعالى ويوحده حق التوحيد، فهي أهل للإكرام والتضحية والنقاء، ومحل الفضل والطهر والعطاء، وما علوم مقامها وذكرها إلا مكانتها ولأعمالها الجمة الجليلة، ولهذا عظمها الإسلام بشرط التزام شرع ربها، فإذا كانت كذلك أحبها أولادها وأطاعوها، ونالت مكانة في المجتمع؛ فالمرأة الصالحة، أو الأم خصوصاً، لا يعلم قدرها إلا من له قلب طيب ذو إحساس مرهف؛ قد تشبع بتعاليم القرآن، والسُّنة المحمدية، والقيم الإنسانية.
فحق على المسلمين احترام المرأة المسلمة وتقديرها، وعلى الأبناء والبنات الاهتمام بالأم وطاعتها ورعايتها من كل النواحي، وحبها حباً جماً على مدار السنة والاهتمام بها اهتماماً عظيماً، وليس الاحتفال والاعتزاز بها وتذكرها في يوم واحد في السنة؛ كما هو دأب الغرب الذين ينسون أمهاتهم ولا يذكرونهن إلا فيما يسمى عندهم «عيد المرأة»، أو «عيد الأم»، أو عند الحاجة الملحة قصد تحقيق مأرب أو أزمة خانقة، أما غير ذلك فهي مهملة أو مرمية في دار العجزة والمسنين.
بل الأحرى والأجدر تذكرها وتذكر خيرها؛ فكم سهرت الليالي وتعبت من أجلك، وصنعت حياة أفضل لك، وقامت بتربيتك وتعليمك وإطعامك، وغيرها من الأعمال الصعبة التي لو كلفت بها وأنت كبير لن تقدر على تحملها، ولن يتحملها إلا ما كان له قلب طيب؛ قلب متعلق بالله تعالى، وله ضمير يؤنبه كل حين؛ إنها مسؤولية جليلة تحملتها المرأة أيما تحمل، وكابدت كل عسر في طريقها، وعانت أنواع المتاعب والويلات؛ متاعب جسمانية ونفسية ومالية وأزمات؛ فحرمت لذة النوم والطعام في كثر من الأوقات، كل ذلك لأجل أولادها.
ثم أنت للأسف عندما تكبر تنسى خيرها ونعيمها عليك، وحدث ولا حرج في هذا الزمان زمن هجر الأولاد للأمهات؛ بل البعض أخرجها من بيتها ورماها في الطرقات، أو ألجأها إلى بيوت المسنين والعجزة بالقوة وهن صاغرات، دون شعور أو إنسانية أو رحمات، سيتجرع يوماً ما من كأس الحسرات، وسيذوق وبال أمره في الحياة، وحساب عسير بعد الممات.
أي قلب هذا! قلب أعمى لا يدرك حقيقة الحياة، ولا يعرف حقاً لأهله.
لا يحدث هذا إلا من فقد ضميره، وفَقَد عواطفه وإحساسه.
قلبه كالحجر الأصم، أو الصخرة الشديدة التي لا تحس ما يفعل بها.
فحُقّ على الرجال احترام المرأة وإعطائها حقها الشرعي دون نقصان أو إجحاف أو إذلال، فقط تطبيق شرع الله تعالى في حقها، وكفى بالله حسيباً، من لازم طاعة أمه، واحترم المرأة المتخلقة؛ سيجد ثمار ذلك في الحياة، وسيرفع مقامه الخالق سبحانه وجل في علاه، ويثيبه على أفعاله ويسعده في الدارين؛ بل سيحظى بتقدير من غيره، ويتذوق حلاوة حسناته وطاعته التي صنعتها ذاته.
الإسلام الحصن الحصين للمرأة
لا جرم أن الإسلام هو الحصن والملاذ للمرأة المسلمة، وهو المأوى الذي يضمها ويسعدها، ويحافظ على قيمتها وكينونتها، وشرفها وحقوقها، فأعظم بنعمة الإسلام وفضله!
إن المتأمل في الفقه الإسلامي يجد كل التشريعات ميسرة ومعينة للمرأة، ومحافظة على حقوقها، حيث شرع لها أداء العبادات من صلاة وصيام وغيرها بيسر، مراعياً ظروفها وأحوالها، وشرع لها الرخص عند الحاجة، فأي نعمة هذه؟
وفي باب النكاح أوجب لها حقوقها كاملة من طرف الزوج، فعليه أن ينفق عليها، ولو كانت ثرية، وأن يتكفل بها من جميع النواحي، ويحسن عشرتها، قال تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: 7).
وعن حكيم بن معاوية القشيري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تُطْعِمَهَا إذا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ -أو اكْتَسَبْتَ- ولا تضرب الوجه، ولا تُقَبِّحْ، ولا تَهْجُرْ إلا في البيت» (رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وأحمد).
وإذا طلقها فليطلقها بإحسان، وأوجب حقها في الحضانة، ويحرم على الزوج أن يهينها أو يتعدى عليها بغير حق؛ بل يحترم حقوقها المعنوية، وأن يكرمها ولا يهينها.
وفي الميراث حدد لها نصابها الشرعي، فلا يجوز للرجل مهما كان أباً أو أخاً أو زوجاً أن يسلبها حقها بدعوى أنها في حمايته، وأنه مسؤول عن الإنفاق عليها، فهذه دعوة جاهلية، وأهواء شيطانية، وعصيان للتعاليم الربانية، وللأسف ما زالت بعض القبائل المسلمة تسلب حقها في عصرنا هذا؛ دون خوف أو خشية من الله تعالى.
كما أن شرعنا الحنيف حمى عرضها وشرفها؛ فأوجب العقوبة والتعزير الشديد على من قذفها أو تعدى عليها، هذا غيض من فيض، وبَرْضٌ من عِدٍّ، وهذه أمثلة بسيطة من بحر الفقه الإسلامي المليء بالدرر للنساء جميعاً.
فعلى المرأة المسلمة أن تتوقف برهة من الزمن لجلد ذاتها، ومراجعة نفسها ومحاسبتها؛ لتصحيح عقيدتها، والالتزام بشرع ربها؛ ستجد عندئذ المكانة المرموقة، وتظفر بالسعادة الدائمة.
ويبقى الإسلام وحده الكفيل بحقوق المرأة وكرامتها، عكس هذه الجمعيات والمنظمات النسائية العالمية المتشدقة بالكلمات المخادعة التي تدعي حماية المرأة، وهي تقف مكتوفة الأيدي أمام الصور المروعة والمشاهد المفزعة لطبيبات قتلن أثناء أداء أعمالهن في وقات الأزمات والحروب دون جرم ارتكبنه، وإزهاق أرواح الصحفيات بدم بارد، وغير ذلك من الاعتداء على النساء اللواتي كن في بيوتهن آمنات مع الأهل، ثم انهالت عليهن القذائف العشوائية، أو الغبية، أو تم التعدي عليهم مباشرة بعد فتح أبواب منازلهن بالقوة، ثم ترويعهن وضربهن، وأحياناً قتلهن، بل قد حدث أكثر من ذلك من أنواع الاعتداءات والإساءات المتكررة لهن أمام عدسات آلات التصوير، كل هذه المنظمات عاجزة مشلولة، خيبت ظن المعمورة، وأكثر القوانين مكلومة.
ولا تنس الاطلاع على التاريخ الإسلامي؛ لتقتدي بالنساء الصالحات، التقيات البطلات، اللواتي سطرن صفحات من المجد والعطاء وأنجبن علماء وعظماء؛ ساهموا في بناء الحضارات ونشر الدين والقيم ورفع مكانة الأمة، في أعلى المنارة، وسطروا ملاحم وبطولات.
فحق للتاريخ أن يكتب أسماؤهن من ذهب، وأن يلمعن في سجل الخالدين والخالدات، من الأمهات اللائي صنعن المجد والأمل، بعد صبر وعمل، أمهات الأئمة الثلاثة؛ الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، رحمة الله تعالى عليهم، وغيرهن كثير غفير في كتب التاريخ.
من سعادتها في الدنيا أنها أحيطت بسياج آمن ومتين من المسلمين الغيورين على دينهم، والغيورين على نساء المؤمنين؛ يحمونها من الذئاب البشرية إذا أرادوا ظلمها أو النيل منها، ولقد كان صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام من الرجال الأوائل الذين ذادوا عن شرف المرأة وحماها، فدفعوا في ذلك أرواحهم الغالية.
ولننظر نظرة تأمل وتدبر لحال المرأة الغربية المهانة التي أصبحت سلعة رخيصة بيد الرجال والمؤسسات والإعلام، يباع شرفها، وينتهك عرضها، والقليل من يذود عنها ويساندها عند الاعتداء عليها، أو من يتسلط عليها، حياتها حياة شقاء ونكد، وضنك وكبد، وجانبها الروحي مفقود، وعرضها موؤود، وقيمتها في قبر مسدود، فأي حياة هذه؟!
وهل تستوي المرأة المسلمة الملتزمة بدينها مع المرأة الغربية التابعة لأهوائها؟