المسلم صاحب مهمة كبرى في هذه الحياة، قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، وهذه المهمة لا يمكن أن يقوم بها عن المسلم أحد سواه على الوجه الذي يؤديها عليه هو ولا يمكن أن يؤديها بدلًا منه غيره فتكون أبدًا كما يؤديها هو، فإن تصور الإنسان عن هذه الحياة وعمله فيها وطريقته في تحقيق هذا العمل تختلف عن تصور غيره وعمل غيره وطريقة غيره.
ولهذا كان انتهاض المسلم لهذه المهمة واجبًا وانسحابه منها حرامًا، وكان العمل في ديننا واجبًا والقعود حرامًا، وكان النشاط في ديننا واجبًا والكسل حرامًا، وكان الأمل في شريعتنا ضرورة واليأس جريمة، وكانت الحركة والسعي واليقظة في شريعتنا بركة والسكون والثبات والغفلة لعنة.
ألم تر كيف ينظر المسلم إلى الكون نظرة وسطية بين غلو قوم وإفراطهم وجفاء آخرين وتفريطهم؟ فبين قوم يعبدون بعض ظواهر الكون وبعض أفراده ويرجونهم ويخافونهم وينتظرون منهم الخير باعتبارهم ملاك كل شيء فيه، وقوم آخرين يتخذون الكون وما فيه أعداء يحاربونهم ويسعون -على حد تعبيرهم– لقهرهم وإذلالهم حتى لم يعودوا يرون في الكون غير مخزن للثروات ومستودع للنفايات.
يصادق المسلم الكون ويعتبره مخلوقًا لله مثله.
ويرى المسلم الكون وسيلة يصل إلى الله تعالى من خلاله.
وينظر المسلم إلى الكون على أنه آلة وأداة منحها الله له وأعارها إياها للاستفادة منها في مهمته التي أوكلها الله تعالى إليه فيه.
ويعتبر المسلم هذا الكون أمانة ائتمنه الله تعالى عليها ومسؤولية سوف يسأله الله عز وجل عنها، فلهذا هو يسعى في المحافظة عليه وتنميته وتطويره والابتعاد عن تخريبه وإفساده والتعدي عليه، بله التفريط فيه.
إن المسلم يرى الحياة والأحياء –ومنهم نفسه التي بين جنبيه– منحة منحه الله تعالى إياها وهو مطلع عليه ينظر ماذا يفعل فيها، ولا يسع المسلم إلا أن يعاملها المعاملة التي أمره الله تعالى بها في كتابه، وبينها له رسول الله ﷺ في سُنته.
وفي شأن معاملة النفس نجد الآيات كثيرة في التحذير من التعدي عليها وإزهاقها، من مثل قول الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً {29} وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً) (النساء)، وفي هذا النهي عن قتل الإنسان نفسه.
ونرى الأحاديث كذلك في هذا المعنى وفيرة، من مثل قوله ﷺ: «من قتل نفسه بحديدة جاء يوم القيامة وحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا أبدًا، ومن قتل نفسه بسُم فسُمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»، ومثل قوله ﷺ: «الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار».
هذه تربية الإسلام للمسلم الذي رزقه الله الحياة، وائتمنه على الأحياء والأشياء، وجعل له قانونًا يتعامل معها على أساس منه: يسعى في إعمارها ونمائها وتطويرها، وقبل ذلك يحافظ على ما هو موجود ويقيه الفساد، وبين هذا وهذا لا يفسد هو ولا يخرب: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) (الأعراف: 56).
وهل نجد في غير الإسلام أن السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن تسبح باسم الله وتقنت له وتخضع لأمره، وأن الإحسان واجب على المسلم لكل شيء حتى القاتل الذي يقتص منه والحيوان الذي يضجع للذبح، وأن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وأن ما لا يضر لا يحل قتله ولا يجوز إيذاؤه.
فهل يولي الإسلام هذا كله تلك الأهمية ثم يغفل عن سيد الكون (الإنسان)؟!
إن الإنسان سيد هذه الكائنات الذي ملكه الله تعالى أمرها، وأحلها له، وأمره بالانتفاع بها، وخول له المحافظة عليها ورعايتها، فإذا كان هذا كله من مهمته ومسؤوليته، فهل يليق به أن يذهب طواعية –بل اعتداء وظلمًا وبغيًا- ويتركها، لا غرو أن وجدنا الفقهاء يقررون: أن المنتحر أعظم وزرًا من قاتل غيره، وهو فاسق وباغ على نفسه، حتى قال بعضهم: لا يغسّل ولا يصلى عليه كالبغاة، وقيل: لا تقبل توبته تغليظًا عليه، كما أن ظاهر بعض الأحاديث يدل على خلوده في النار.
ووجدنا المفسرين لا يفرقون بين قاتل غيره وقاتل نفسه في تنزيل الأحكام المغلظة التي تذكرها هذه الآية عليهما معًا: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء: 93).
إن الإسلام يرفع قدر كل فرد من بني الإنسان حين يجعله مسؤولًا في محيطه وبيئته وعالمه، لا فرق في ذلك بين الرئيس وشعبه، والغني والعامل له في ماله، والتاجر والخادم الذي معه في متجره، والرجل وزوجته التي في دارها، كل هؤلاء في نظر الإسلام مسؤولون في مواقعهم التي تتوزع على جوانب الحياة كلها، متساوون في مهمة إصلاحها والقيام بدفع الفساد عنها وإقامة دين الله تعالى في جميع جوانبها؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته».
ليس هنا من هو عاطل أو مهمل أو زائد، كل العمال مكلفون وكل الطاقات مطلوبة، ومن ثم لا ينبغي أن ينسحب مسؤول من موقعه، ولا يليق أن يفر عامل من مهمته، ولا يقبل أن يتخلى مؤتمن عن أمانته، فضلًا عن التفريط في أدوات الإصلاح وأعظمها الروح التي منح الله الإنسان كل هذا التكريم من أجلها.
إن الانتحار جريمة يرتكبها المنتحر في حق نفسه، وفي حق أسرته، وفي حق مجتمعه، وفي حق الإنسانية، وفي حق الكون، وفي حق الدين، لكن هي كذلك فقط عندما ننظر إليها باعتبارها انسحابًا وتخليًا عن مهمة الإنسان العظمى في هذه الحياة.