نجحت المقاومة الفلسطينية بتوجيه صفعة قاسية إلى الاحتلال في جنين من خلال خبرات متراكمة سطرها أبطال المقاومة رغم العوامل المعقدة والمتشابكة التي تحيط بالضفة الغربية.
فمنذ عقود تخوض المقاومة الفلسطينية محطات من الجهاد ضد الاحتلال الصهيوني الذي يمارس إرهاباً منظماً ضد الشعب الفلسطيني، تميزت هذه المواجهة بصمود أسطوري في وجه إرهاب الدولة الذي مارسه القادة الصهاينة وقوات جيش الاحتلال والمستوطنون، حيث شهدت المقاومة عدة محطات من التطورات في مواجهات واشتباكات أدت إلى صعود المد المقاوم بقدرات أكبر وبعمليات أكثر جرأة وقوة وسط احتضان شعبي لأيديولوجية المقاومة فكراً وأداء.
ورغم المجزرة البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في مخيم جنين، فإنها فشلت في تحقيق مبتغاها في إضعاف المقاومة الفلسطينية، بل كانت مجرد وسيلة صهيونية صورية لكي يحصل تكتل نتنياهو اليميني المزيد من الأسهم والأصوات، ويحافظ على تماسك ائتلافه، في ظل استمرار المعارضة لقضية الإصلاحات القضائية التي يتبناها نتنياهو بهدف زيادة سلطته في الكيان الصهيوني.
المقاومة شهدت عدة محطات من التطورات أدت لصعودها وسط احتضان شعبي لأيديولوجيتها
«نكبة» فـ«نكسة» فـ«أوسلو».. لم تستطع هذه الجراح التي عاصرها الشعب الفلسطيني أن تغير قناعاته النضالية، بل رسخت عمقاً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً يؤكد أن الكفاح المسلح خط إستراتيجي لانتزاع الحق الفلسطيني في ظل ازدواجية المعايير الدولية، والتنكر لمئات القرارات الدولية التي انحازت للاحتلال وجرائمه وإرهابه بشكل مخالف لكل المواثيق الدولية والإنسانية؛ مما عزز صعود الشعبوية اليمينية الصهيونية.
وقد شكل صعود تحالف اليمين الصهيوني في الانتخابات الأخيرة بقيادة رئيس الوزراء الصهيوني المجرم بنيامين نتنياهو رافعة للإرهاب الصهيوني وأفكار اليمين المتطرفة، وتمثلت مؤخراً بـ«مسيرة الأعلام» والعدوان على القرى الفلسطينية وإحراق المستوطنين بيوت الفلسطينيين وأراضيهم، التي تسعى بطرق دموية لإحلال اليهود الصهاينة في فلسطين بدل شعبها العربي الفلسطيني، متلاعبين بحالة القلق والخوف التي تسربت للمجتمع الصهيوني بعد انتصارات المقاومة الفلسطينية التي تحققت في السنوات الأخيرة، بداية من معركة «سيف القدس» وصولاً لجنين التي باتت تمثل قلعة وقاعدة للعمل المقاوم في الضفة الغربية المحتلة.
تآكل الردع الصهيوني
وهنا نقرأ حقيقة تمكن المقاومة في الضفة الغربية من ضرب الاحتلال صفعة قوية للمنظومة الأمنية في دولة الاحتلال، دلالاتها برزت قديماً في تآكل الردع وانكسار هيبة جيش الاحتلال أمام المقاومين.
وبالأمس القريب انتشرت صور لصاروخ «القسام» ينطلق في الضفة الغربية، وكذلك صور إنتاج العبوات في جنين؛ ما مثل فشلاً ذريعاً لجهاز الأمن الداخلي الصهيوني ومنظومات الأمن؛ وهو ما أشار إليه مائير بن شبات، في صحيفة «إسرائيل اليوم»، أن النتائج في جنين لا تبشر بتغيير إستراتيجي بعد انتهاء العملية في جنين؛ وهو بمعنى آخر اعتراف ضمني بالفشل، وهو ما أكده أيضاً الصحفي الصهيوني إيهود يعاري، معلق الشؤون العربية في قناة «12» العبرية، حيث قال: لقد فشلت العمليات العسكرية السابقة، بداية من عملية «السور الواقي» عام 2002م، وكذلك العملية في جنين؛ وبالتالي لن ينتهي إرث مخيم جنين، فهؤلاء المقاومون الذين يحملون السلاح اليوم بجنين هم أبناء الشهداء الذين ارتقوا في معركة جنين الأولى عام 2002م؛ وهو ما يؤكد أن «الكبار يُستشهدون، وأبناءهم يستمرون في النضال»، ويكشف زيف الدعاية الصهيونية الكاذبة أن «الكبار يموتون، والصغار ينسون».
انتصار جنين يؤسس لما بعده وتكامل الساحات يتعدى تأثيره لما وراء المعارك والانتصارات
ومن زاوية أخرى، نقرأ تآكل الردع الصهيوني أمام حجم ونوعية عمليات المقاومة التي حققت خسائر كبيرة في جنود الاحتلال، رغم تكتم المنظومة الرسمية عن إعلان خسائرها الحقيقية، لكن مشاهد الآليات الصهيونية المعطوبة وطائرات الإسعاف التي نقلت العشرات من جنود الاحتلال للمشافي في الداخل المحتل كل هذا كان في مرمى نيران وعبوات المقاومة في جنين، وبفعل العنف الثوري ضد الإرهاب الصهيوني.
إن ما نراه اليوم في جنين نتاج جهد منظم من المقاومة، توحدت فيه الفصائل العسكرية في خندق واحد ليسطروا ملحمة بطولية ستقف المنظومة الأمنية الصهيونية أزمنة عديدة تتدارسها وتحلل الأخطاء والشراك التي أوقعتها المقاومة الفلسطينية فيها، في فعل ثوري يتناسب مع الموقف العملياتي الذي نجحت من خلاله القوى الفلسطينية في إظهار مدى الضعف الذي يعانيه جنود الاحتلال، وما هم إلا وحوش إرهابية حائرة أمام إرادة الصمود والتحدي التي ظهرت في ميدان مخيم جنين، لتؤكد جنين أنها صخرة كأداء في وجه الاحتلال.
لقد كان هذا الانتصار بمثابة وضع النقاط فوق الحروف، وما دلالة عملية الرد على مجزرة جنين في تل الربيع (تل أبيب) إلا ضربة معلم جاءت في وقتها؛ لتؤكد مدى رسوخ وثبات المقاومة، وبالتوازي مع ذلك كان لبيان الغرفة المشتركة للمقاومة أهمية فائقة؛ حيث أكدوا أنهم يتابعون العدوان الصهيوني وأبعاده الخطيرة، محذرين الاحتلال من ارتكاب أي حماقات إضافية ضد جنين.
في الحقيقة، أنا مؤمن وبشدة أننا سنرى مدى تأثير صعود المقاومة وكسرها هيبة الدولة الصهيونية وتآكل الردع أمام أسود المقاومة؛ الأمر الذي بات جديراً بالملاحظة، ومن هذه النقطة فصاعداً يمكننا القول: إن انتصار مخيم جنين يؤسس لما بعده، فلقد ترك بصمات واضحة؛ لأن معركة التحرير ستكون رعباً حقيقياً وهزيمة مدوية للكيان الصهيوني أمام المقاومة في ظل وحدة الجبهات وتكامل الساحات الذي ينتظر هذا اليوم، متسلحاً بعقيدة جهادية يتعدى تأثيرها لما وراء المعارك والانتصارات.