إن إحياء ذكرى الأعلام من المفكرين والدعاة والعلماء بتنظيم الندوات والمؤتمرات لهو دليل على قيمة ما بذلوه وما أنتجوه وضحوا في سبيله، وهو في الوقت نفسه تفعيل وتذكير بالمبادئ التي كافحوا في سبيل تحقيقها وناضلوا من أجلها، ويعد بعثاً جديداً لفكرهم ودعوتهم بين الناس، وهو من جهة أخيرة دليل على خيرية هذه الأمة التي تتواصل أجيالها حيث يتذاكر اللاحقون مناقب السابقين والتوقف أمام الدروس المستفادة من تاريخهم وتجاربهم.
وفي الوقت الذي يتعرض فيه الإسلام لحملة عدوانية متواصلة، ترمي لتشويه قيمه ومبادئه وشريعته وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإهالة التراب على قادته ومصلحيه وكبار مفكريه، وتعمل في الوقت ذاته على إبادة منتسبيه في مناطق شتى في أرجاء المعمورة، تأتي مثل تلك الفعاليات لتمثل رداً بليغاً على تلك الحملات، وتأكيداً على تمسك الحركة الإسلامية بدينها الإسلامي الحنيف ومضيها على طريقه لترسم معالم مشروعها الإسلامي نحو عصر جديد.
من هذا المنطلق، أنظر لتلك الندوة المنعقدة في إسطنبول (في 29/ 8/ 2023م بعنوان «سيد قطب وأثره في الفكر الإسلامي»، إحياء لذكرى استشهاد أ. سيد قطب السابعة والخمسين، متأملاً تجربته الفريدة التي عاشها، وتكوينه الثقافي ونظرته للكون والحياة وما أسهمت في تشكيل ملامح التجديد لديه ورسخت في كيانه مفهوم عزة المؤمن.
هذه التجربة لم تأت من فراغ، وإنما صنعتها منظومة فكرية عميقة ومتنوعة اعتملت في عقله وتفاعلت في وجدانه، وتجارب عملية وثرية عاشها هذا العملاق وأفرزت هذا النهج الفريد في حياته.
التوجه نحو الإسلام
كان الرجل يرحمه الله أديباً بليغاً ومن المثقفين الذين يعدون على الأصابع في مصر والعالم العربي، ومن تقدير الله سبحانه وتعالى أن الخيوط الأولى لتوجهه الإسلامي نُسجت خلال بعثته العلمية للولايات المتحدة.. فعندما تابع وشاهد مظاهر احتفاء الأوساط السياسية والفكرية الأمريكية بنبأ اغتيال الإمام حسن البنا على يد حكومة النقراشي وبمباركة الملك فاروق، انتبه بشدة إلى حقيقة دعوة «الإخوان المسلمون» وحقيقة شخصية الشيخ حسن البنا وقدرة مشروعه الإسلامي على تحقيق نهضة الأمة المفقودة، وما يمثله ذلك المشروع -بالتالي- من خطورة على المشروع الغربي الصهيوني الاستعماري، فانطلقت سهام أعداء الإسلام في الشرق والغرب عن قوس واحدة مصوبة إلى صدر البنا بغية التخلص منه، وإلى جماعة الإخوان لإنهاء وجودها ووأد خطرها عليهم وعلى أطماعهم في بلاد المسلمين.
وأدرك سيد قطب جيداً مقولة الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما سُـئل: كـيف نعرف أهل الـحق في زمن الـفتن؟ قال: تتْبَع سهام العـدو فهي تُرشـدك إليهم، وقول شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه: «إذا أردت أن تعرف الحق فتتبع أين تتجه سهام العدو»، واعتملت في رأسه أفكار إيجابية عن جماعة الإخوان، تنبئ عن تغيير جوهري قادم في توجهاته وقناعاته، وكان قراره الحاسم بالانضواء تحت لواء تلك الجماعة، بعد أن تيقن أن الحق حيث ميدانها وتحت رايتها.
وانتقل أ. سيد قطب يرحمه الله من طور «النقد الأدبي» و«التصوير الفني للقرآن الكريم»، إلى طور السلوك العملي نحو إصلاح المجتمعات وإقامة المجتمع المسلم على عقيدة سليمة ومنهج إسلامي إصلاحي صحيح وواضح.
انتقل سيد قطب بالكلية إلى جماعة الإخوان بعد أن خلع نفسه من كل مظاهر الحياة وإغراءاتها التي لم يتوقف انهيال مغرياتها عليه، وترك مؤسسة ضباط يوليو (الضباط الأحرار) التي كان عضواً بارزاً في اجتماعاتها، وموجهاً فكرياً لمناقشاتها التي فتحت له الطريق نحو اعتلاء أرفع المناصب في مصر.
نعم، ترك كل ذلك ونذر نفسه للعمل للإسلام.. والإسلام وحده والدفاع عن عقيدته الصافية التي لا تشوبها شائبة، مدركاً أن المعارك التي تدور رحاها داخل الإنسان وخارجه إنما هي لطمس معالم العقيدة الصافية لديه.
وقد كان انتقاله من مرحلة النقد الأدبي والتصوير الفني للقرآن ومعيته للأستاذ عباس محمود العقاد (28 يونيو 1889 – مارس 1964م) معية التلميذ للأستاذ، إلى مرحلة العيش في ظلال القرآن الكريم والاندماج في مدرسة «الإخوان المسلمون» ومعية فكر حسن البنا (14 أكتوبر 1906 – 12 فبراير 1949م) (25 شعبان 1324هـ – 13 ربيع الآخر 1368هـ)، معية الجندي للقائد في العمل لدين الله، وتلك نقلة مفصلية وحاسمة في حياته.
ومنذ ذلك الوقت بات أ. سيد قطب الوجه المكمل لمشروع الإمام الشهيد حسن البنا -كنز الشرق كما يقول عنه الكاتب الأمريكي الفذ روبير جاكسون- فالبنا وضع الأساس لمشروع إسلامي شامل ينهض بالأمة ويسعى لتخليصها من استبداد أنظمة الحكم وتحريرها من ربق الاستعمار والغزو الفكري ويعيدها إلى أحضان دينها، وأسس لذلك جماعة تحمل هذا المشروع –وما زالت– وتنافح عنه وتنطلق به في العالمين مقدمة كل التضحيات في سبيله، وقد أضاف مشروع سيد قطب الفكري بعداً جديداً لمشروع الإمام البنا الشامل.
ووضع سيد قطب -كالبنا- نصب عينيه التطبيق العملي لمبادئ الإسلام والتضحية بالنفس في سبيلها، وصدق الرجل مثلما سبقه البنا لذلك، وقد عبر عن ذلك في أكثر من موضع، في «في ظلال القرآن» وفي كتبه ومقالاته، وخرجت منه في أكثر من مناسبة، تلك الكلمات التي تؤكد معالم التجديد والثبات عنده يرحمه الله التي ما زالت حية وحديثاً يتردد، كما أنها ما زالت عنواناً على صدقه مع الله، ومنها قوله:
1- «.. قليل هم الذين يحملون المبادئ، وقليل من هذا القليل الذين ينفرون من الدنيا من أجل تبليغ هذه المبادئ، وقليل من هذه الصفوة الذين يقدمون أرواحهم ودماءهم من أجل نصرة هذه المبادئ والقيم، فهم قليل من قليل من قليل».
2- «.. عندما نعيش لذواتنا، تبدو الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود.. أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة، عميقة تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض، إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة.. نربحها حقيقة لا وَهْماً».
3- وقوله: «لا يحسبن مفسد أو ظالم أنه مفلت وأن فساده وظلمه سيمر هكذا دون عقاب، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه، وفسد تقديره، واختل تصوره، فإن الإله الذي جعل الابتلاء سُنة ليمتحن بها إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين؛ هو الذي جعل أخذ المسيئين سُنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ) (العنكبوت)».
4- ومقولته التي يعرفها كثير منا: «إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة».. سبحان الله! وبالفعل تحولت عرائس الشمع التي صنعها من كلماته في حياته إلى روح تسري، وإن ما نردده اليوم من كلماته يرحمه الله لدليل على أن روحاً نابضة تدب في كلماته وستظل تنبض بالحياة.. وهكذا انتقل من طور الكلمات الأدبية إلى طور السلوك العملي نحو إصلاح المجتمعات وإقامة المجتمع المسلم، واضعاً نصب عينيه التطبيق العملي للإسلام والتضحية بالنفس في سبيله، وعبر عن ذلك في أكثر من موضع في «في ظلال القرآن»، وفي كتبه ومقالاته، وخرجت منه تلك الكلمات التي ما زالت حديثاً يتردد، وما زالت عنواناً على صدقه مع الله، ودليلاً على ما تجسد لديه من يقين راسخ حتى اللحظات الأخيرة وهو تحت حبل المشنقة قائلاً، قبل تنفيذ الحكم بإعدامه عندما طُلب منه تقديم استرحام لعبد الناصر بالعفو فرد: «لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوماً بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوماً بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل»، وقد رُوي أن الذي حاول تلقينه الشهادتين قبل تنفيذ الإعدام –وهو تقليد متبع في مصر قبل تنفيذ الإعدام- قال له: تشهَّد.. فرد عليه أ. سيد: «حتى أنت جئت لتكمل المسرحية، نحن يا أخي نعدم لأجل لا إله إلا الله وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله».
نقد الحضارة الغربية
ولم يقف الشهيد سيد قطب يرحمه الله في وجه الطغاة فقط، وإنما وقف في مواجهة طغيان الفكر الغربي ومحاولة فرضه علينا، وكان له بالمرصاد، ولذا فهو يعد من أبرز الكتَّاب والمفكرين الذين نقدوا الحضارة الغربية، وكشفوا عوارها، وفضحوا مخططات الاستعمار الغربي وأطماعه في بلادنا، كما وجه في مقالاته وكتبه نقداً لاذعاً للنظامين الرأسمالي والشيوعي.. وإن مقاله الشهير «إسلام أمريكاني» الذي نُشر في مجلة «الرسالة» عام 1952م يفضح سياسة أمريكا وعملائها في المنطقة، وفيه يقول: الإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان.. إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيُعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء.. فكلاهما عدو».
حملة تشويه
وقد تعرض فكر الشهيد سيد قطب للطعن والتشويه ومحاولات تغييبه عن ذاكرة الأمة والتاريخ، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، بل بالعكس تزايد الإقبال على فكره، وازداد ذكره علواً وانتشاراً بصورة مذهلة، ومن أمثلة ذلك ما رواه لي صديق من منطقة الخليج وكان يهوى السفر للخارج، قال: في إحدى رحلاتنا الخارجية قررنا الصعود إلى قمة جبال الهمالايا، وبالفعل صعدنا فوجدنا عجباً! وجدنا عدداً من العرب يتحلقون حول كتاب يتدارسونه، وعندما اقتربنا أكثر وجدناهم يتدارسون «في ظلال القرآن»! من الذي جاء بهؤلاء هنا؟! لقد حاصروا فكره على الأرض فصعد إلى أعلى الجبال، وشوهوه وحاربوه بكل الوسائل والطرق وجعلوا اقتناء كتبه بمثابة دليل اتهام على جريمة يعاقب عليها مرتكبها، لكن كتبه وأشعاره وكلماته ظلت موجودة ويتزايد توزيعها انتشاراً وما زالت كلماته «عرائس الشمع» تدب فيها الروح وتنبض بالحياة، ولعل ندوتنا هذه مثال بسيط على ذلك.
كما أن الله سبحانه وتعالى سخر من أزال الركام عن ميراثه الفكري وبدد التشويه الكثيف المحيط به فعاد ناصعاً، ففي يوم ذكرى استشهاد سيد قطب تم وداع واحد من الذين اهتموا برفع الركام عن جانب مهم من فكره، وهو مجموعة أشعاره الكاملة التي كادت أن تندثر، لكن الزميل الحبيب الأستاذ علي عطية، الصحفي بجريدة «الأهرام» كرس نفسه على مدى أربع سنوات تقريباً، أنجز خلالها تحقيق كل الأعمال الشعرية للشهيد سيد قطب، وقد حصل على أصولها بعد لأي، وبعد أن كادت أن تندثر، وأصدرت له مؤسسة «الأهرام» هذا الإنجاز عام 2012م ونالت حظاً وافراً من النقاش والحوار بين الشعراء والأدباء، هذا الزميل –أ. علي عطية- لقي ربه في يوم ذكرى استشهاد سيد قطب –كما قلت– وأسأل الله أن يجمعهما على حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر: 31).
تجربة الإخوان في الحكم
وبصعود الرئيس الشهيد محمد مرسي إلى حكم مصر عام 2012م لمدة عام، وطرح جماعة الإخوان لمشروعها السياسي وتنزيل بداياته على أرض الواقع، رغم العراقيل ومحاولات الإفشال المستمرة.. بهذا اكتمل مشروع الجماعة الإسلامي الشامل بالتحاق الجانب السياسي الذي يعتبره الإمام الشهيد جانباً أساسياً بقوله: «السياسة جزء متمم للإسلام ومن لم يهتم بالسياسة فإن إسلامه ناقص».
البنا وضع أساس ومعالم المشروع، وسيد قطب عمق الجانب الفكري، ومحمد مرسي أنزل الجانب السياسي على أرض الواقع، إنه مشروع واحد وموحد لجماعة «الإخوان المسلمون»، لم تكن معالمه اجتهادات متفرقة.. كل قائم بذاته، وإنما هي مشروع متكامل يسعى لتطبيق الإسلام وتنزيله منزل الحكم، لكن قوى الاستعمار العالمي وسماسرته في داخل بلادنا لم تترك هذا المشروع يشق طريقه وحاولت وأده في مهده، لكنه صمد وما زال حياً ويشق طريقه بين الأجيال والأمم، وهو قابل للتطبيق عندما يحين الظرف المناسب.
وختاماً، فإن مشروع الإمام الشهيد حسن البنا الذي التحق به الشهيد سيد قطب، والرئيس الشهيد محمد مرسي ليس مشروعاً منفصلاً عن باقي المشاريع الإسلامية التي ظهرت في مناطق عدة من العالم.. مشروع أبو الأعلى المودودي في باكستان، وأبو الحسن الندوي في الهند، وتجربة تركيا وإندونيسيا وغيرها، إنما هي مشاريع ذات مضمون واحدة ورسالة واحدة انصهرت في بوتقة واحدة وأنتجت مشروعاً واحداً تحقيقاً لرسالة واحدة وهي تطبيق الإسلام واقعاً عملياً وإعادة الناس إلى أحضان دينهم الحنيف.
_________________
1- شعبان عبدالرحمن، مدير تحرير مجلة «المجتمع» الكويتية، و«الشعب» المصرية سابقاً.
2- ورقة مقدمة لندوة «سيد قطب وأثره في الفكر الإسلامي»– إسطنبول، 29/ 8/ 2023م.