تتنازع المرأة السودانية مدارس فكرية وواقعية متعددة، منها من ارتفعت بشأنها إلى حدود إمامة المسلمين في الصلاة، وهو الحق الذي منحه لها زعيم الجبهة الإسلامية الراحل د. حسن الترابي، عندما أعطى المرأة الحق في الإمامة، بل والحق في الزواج بغير المسلم، ومنحها أيضًا في حركته مواقع للقيادة، وتمثيل الأمة في البرلمان، وفي المجالين السياسي والدبلوماسي، بينما ظلت المدارس السلفية الأخرى في السودان ترى أن حدود حركة المرأة هي داخل بيتها فقط.
وكانت رؤية الترابي أكثر وضوحًا، وتحديدًا من بين المفكرين الإصلاحيين الذين تناولوا دور المرأة في الفقه الإسلامي، وحمل كتابه المعنون بـ«المرأة بين الأصول والتقاليد»، الصادر عام 1421هـ/ 2000م، رؤية أثارت الكثير من الجدل حول المرأة، ويمكننا تلخيص تلك الرؤية في الآتي:
– المرأة في الإسلام كائن إنساني قائم بذاته، لها نفس الحقوق والواجبات التي للرجل.
– المرأة لها حرية الاعتقاد والعمل، وهي تتحمل المسؤولية عن أفعالها بنفس القدر الذي يتحمله الرجل.
– المرأة لها حق المشاركة في الحياة العامة، بما في ذلك السياسة والعلم والعمل.
– الحجاب المشهور هو عادة اجتماعية، وليس له أساس شرعي.
– المجتمع الإسلامي قد ظلم المرأة بسبب العادات والتقاليد الجاهلية.
– المرأة المسلمة يجب أن تنهض بنفسها وتطالب بحقوقها.
ومؤخرًا، أفسحت الطرق الصوفية المتعددة في السودان الطريق للمرأة السودانية كي تشارك في العمل الطوعي والإغاثي، والإنشاد الديني الذي تقوم به تلك الطرق في مختلف أنحاء السودان.
وعلى المستوى الواقعي، عانت المرأة في السودان منذ ما قبل استقلاله في العام 1956م بسبب ويلات الحروب الأهلية التي اندلعت بشكل موسع في أغسطس 1955م، ولم تنته حتى اليوم.
والمرأة التي أراد لها الترابي أن تكون إمامة وداعية ووزيرة تعاني اليوم ظروفًا هي الأسوأ في تاريخ السودان، فهي تحاول أن تهرب بأطفالها من جحيم الحرب الدائرة هناك، حيث يمارس أبشع أنواع التعذيب النفسي والمعنوي والجسدي ضد المرأة هناك، فيقومون باحتجازها، واغتصابها، وتصوير ذلك ونشره في كل أنحاء العالم، في عملية منظمة لتدميرها نفسيًا ومعنويًا.
وعندما حاولت الهروب بأطفالها إلى مخيمات النزوح لاحقتها الأوبئة والأمراض التي تقتل أطفالها بحمى الضنك، والملاريا، والحمة الصفراء، ومختلف الأنواع التي تلاحق النازحين السودانيين من كل أنحاء البلاد، والضحية الأولى فيها هي المرأة.
كل ذلك جاء أيضًا بسبب فشل الأفكار الإصلاحية في تشكيل وعي قيمي وأخلاقي يصمد في مواجهة التخلف والعنصرية، وكان على الدوام هناك قطاع من المرأة السودانية لا يسمع عن تلك الحروب الفكرية التي شهدتها منتديات الخرطوم في الماضي، التي كانت جميعها تدور حول المرأة، ودورها، كأم وزوجة ومربية ومعلمة.
وهناك أكثر من 10 ملايين ينتمون إلى أطراف السودان في غربه في ولايات دارفور، وملايين أخرى في جنوبه في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، يتسارعون منذ الاستقلال ويرتحلون هروبًا من الحرب، فلا تعرف النساء هناك المدارس، خاصة بين قبائل العرب الرحل مثل الرزيقات، والمحاميد، والمسيرية، فتلك القبائل تحمل نساءها مع قطيعها، وترحل شمالًا وجنوبًا بحثًا عن العشب، ولا تجد وقتًا للمدرسة، أو للمنتدى الديني، أو الثقافي، كي تشارك في تلك المناقشات التي كانت تضج بها القاعات الثقافية والفكرية في الخرطوم، حول الترابي كزعيم لحركة إسلامية تسلمت الحكم في يونيو 1989م أن ينقل تلك القبائل وخاصة في غرب دارفور إلى المدنية، وأنشأ هناك العشرات من المدارس والجامعات؛ كي تسهم في التطور الثقافي، والفكري، والديني، والإنساني عند تلك المجتمعات.
ولكن الحرب الكبرى التي اندلعت بين القبائل العربية، والقبائل الأفريقية، في العام 2003م، قضت تمامًا على جميع تلك المحاولات الواقعية على الأرض من مؤسسات تعليم، ومن محاورات ومناقشات حول دور المرأة، وإسهاماتها.
كان البعض يتهم الترابي أن أطروحاته حول المرأة، وخاصة منحها حق إمامة المسلمين، والزواج بغير المسلم، محاولات مكشوفة لمغازلة الغرب الذي كان يحاصر حكمه، ويتهمه بقيادة جماعة رجعية تحاول أن تنشر أفكارها في أفريقيا.
كما اتهمه البعض أنه كان يحاول استقطاب تيارات اليسار والليبراليين، ونشطاء المنظمات الدولية في السودان، التي كانت تتهم الحركة الإسلامية بالجور على المرأة وحقوقها، بينما قال آخرون: إن الرجل أراد إبطال حجة تلك الأطراف، وسحب البساط من تحت أقدامهم كي لا تكون تلك حجتهم للاسترزاق عند الغرب.
وإذا كانت المرأة السودانية اليوم تعيش واقعًا مريرًا، حيث تقتل وتغتصب وتبتاع من مجموعات تنتمي إلى العرب والمسلمين، ولا تجد نصيرًا لها في محيطها العربي والإسلامي، فإن حالها في مناطق وسط السودان التي هربت منها، ليس أقل سوءاً من زوجات وبنات وأمهات هذه المجموعات العربية التي جاءت من دارفور واحتلت الخرطوم، فتلك النساء أيضًا ظلت على مدار تاريخها تحرم من أنوثتها، وتنتزع منها الصفات التي حبا بها الله المرأة، كالرقة، والخلود إلى الراحة، فظلت منذ مئات السنين تتحرك مع قبائلها راكبة ومترجلة وغير مستقرة، تفارع الوحوش والغزاة، ولا وقت عندها للتعلم والتزين، والقيام بدورها كأنثى.
فالمرأة السودانية إذًا، يحاصرها واقع الحروب والنزوح الدائم، وفقدان الأولاد والأزواج والآباء، وتلك الأوبئة التي تأتي كالطوفان تبتلع الأحبة وتحول حياتها دائمًا إلى جحيم، وإذا كانت أعداد قليلة من نساء المدن وخاصة الخرطوم قد حاولت أن تشارك في رسم دورها، وتطويره، فإن انتكاسة كبرى قد حلت بواقع المرأة في السودان عندما دخلت قوات من عرب الشتات إلى البيوت واحتجزت النساء كسبايا، وقامت ببيع البعض منهم في السوق كالبهائم، أطلقت عليه «سوق نساء الجلابة»، وهي انتكاسة تاريخية تحتاج إلى مدارس نفسية لعلاجها من هذا الواقع المرير، إلى جانب تلك المدارس الفكرية التي تناقش أوضاعها ودورها في الأسرة والمجتمع، وذلك في ظل استباحتها من مجموعات تدعي أنها تنتمي إلى العرب والمسلمين، إضافة إلى تواطؤ غير مسبوق ومفضوح من تلك المنظمات التي كانت تملأ الأرض ضجيجًا حول حقوق المرأة، وهي الآن تصمت عن تلك الجرائم المروعة التي تعددت وتنوعت في بشاعتها بشكل لم يسبق له مثيل.
«الترابي» الذي قاد حركة فكرية للنهوض بدور المرأة ونجح في أن تعتلي أعلى المناصب في البلاد، لم يفلح أن يجعل من ذلك ثقافة عامة عند جميع فئات الشعب السوداني، وهذا هو المحك الأهم في أي رؤية فكرية، أو ثقافية.