في مشهد يُسيطر عليه العنف والتطرف ويحكمه التعصب الأعمى لأيديولوجية صهيونية متطرفة، توظف الأفكار المُعادية بشكل مطلق للآخر والنافية لوجوده، يُصبح إعادة إحياء قيم إسلامية سمحاء والبحث في تراث الحضارة الإسلامية عملاً غاية في الأهمية، ليُقدم المسلمون في أنفسهم صورة حقيقية نقية عن الإسلام تتلافى ما يحاول العدو الصهيوني رسمه عن الإسلام والمسلمين بتشويه صورتهم وإظهارهم بمظهر الأمة المُتطرفة والمُتعصبة التي تستحق الإبادة.
وقد قدمت المقاومة الإسلامية الباسلة في غزة أسمى آيات التضحية والفداء، وسعت إلى استغلال السلاح الإعلامي لفضح التطرف الصهيوني وتبيان الحقائق عن جرائمه وعدوانه، لتنبئ العالم بأكاذيب تشويه التطرف الصهيوني للمسلمين ولقضية فلسطين، وقد ظهر ذلك جلياً في تصريحات الأسرى المُفرج عنهم الذين أكدوا حسن المعاملة والضيافة من جانب رجال المقاومة لهم على العكس من العدو الصهيوني الذي ينكل بالمسلمين ويسعى لمحوهم من الوجود.
هذا التعصب والتطرف يفرض على المسلمين إعادة إحياء القيم الإسلامية السمحاء التي بنوا عليها نهضتهم من قبل، وتمكنوا رغم ما حاق بهم من تطرف عدواني من الأمم الأخرى كالفرس والروم والتتار، من تقديم أسمى آيات الانفتاح على الآخر والتسامح معه والتعايش السلمي بين جميع الطوائف تحت مظلة الإسلام السمحاء، فحققوا نهضة شاملة سطع نجمها في العصور الوسيطة وأطل إشعاعها الثقافي والأخلاقي والعلمي فملأ آفاق الكون بقيم واكتشافات لا تُحصى.
التسامح والانفتاح كقيم نهضوية حاسمة
وفي القلب من القيم النهضوية التي صارت مجتمعاتنا العربية تفتقدها ومن ثم تُعرقل بغيابها تحقق تقدم ملموس خاصة على صعيد الأخلاق الاجتماعية المؤسسة للنهوض والتقدم، هي قيمة التسامح التي تعني قدرة الإنسان والمُجتمع على قبول القيم والأفراد والكيانات المُخالفة له والتعامل معها بإحسانٍ وتفهم، وهو ما يتطلب في المقام الأول انفتاحاً على تلك القيم والقبول في التعاطي معها بشكل إيجابي دون رفض مُسبق أو إطلاق أحكام قطعية مبنية على موقف دوجمائي منغلق على الذات.
وتتمثل أهمية الانفتاح على الآخرين بكل ما يحملونه من قيم ومُعتقدات ومبادئ وعادات في تعزيز قدرة الفرد والمُجتمع على إدراك التنوع وحسن التفاعل مع الاختلافات، ومن ثم القدرة على إدارة الاختلافات بشكل سلمي متحضر ومُتسامح، ومن ثم تتنامى فرص المجتمع في الاطلاع على طرائق مختلفة ومنهجيات متنوعة لسائر القضايا بديلاً عن رؤية متوحدة قاصرة قد لا تحيط بكل الجوانب ولا تمتلك الإجابات الكافية لكل التساؤلات أو الحلول الناجعة لكل المشكلات.
كيف فقدنا التسامح والانفتاح؟
وقد أسهم غياب الاعتزاز بالذات والثقة في النفس في فقدان قيمة التسامح والانفتاح في المجتمعات العربية، إذ إن التسامح والانفتاح يتطلب ابتداءً أن يكون الطرف المتسامح والمنفتح على قدر من امتلاك حقيقي ومتمكن لأرضية ثقافية ودينية وأخلاقية راسخة لا تشعر بالتهديد من الاختلاف ولا ترى في الآخر خصماً منافساً ولا يُزعزع إيمانها بقيمها ومعتقداتها بعض الآراء المعارضة.
وساد لدى العرب يوم أن كان اعتزازهم بأنفسهم راسخاً وإيمانهم بالإسلام قوياً ثابتاً منفتحين على سائر الحضارات والجماعات، بل وطور المسلمون علم الكلام للرد على المخالفين في مسائل العقائد دون حرج أو مواربة، وشهدت عصور الازدهار الإسلامي في ذروتها وخاصة في القرن الرابع الهجري تنوعاً ضخماً تمثل في فرق كلامية وعقائدية ومذاهب وجماعات وتيارات فكرية لا تُحصى، ومثلت حركة الترجمة في القرن الثاني الهجري انفتاحاً إسلامياً قوياً على سائر ما أنتجته مُختلف الحضارات في العالم من اجتهادات وإسهامات في سائر فروع العلوم والفنون، فترجمت كتب أرسطو وأفلاطون في الفلسفة جنباً إلى جنب مع كتابات الأدب الفارسي، وتمكن علماء المسلمين من الأخذ من الآخرين والتعديل عليهم والإضافة إليهم بما يناسب الحضارة الإسلامية دون تماهٍ مُطلق معها أو انغلاق تام دونها؛ بما أنتج في النهاية إسهاماً حضارياً ضخماً ظلت الحضارات التالية له تأخذ عنه لقرون طويلة بعد أن خفت إشعاع الحضارة الإسلامية وتوقف عطاءها الحضاري.
التسامح والانفتاح في المنظور القرآني
وإذا ما تأملنا الهدي القرآني، نجد أن الأسس اللازمة لبناء قواعد التسامح والانفتاح على الآخر قد تجلت في نواحٍ عدة في الخطاب القرآني، فنجد أن الخطاب القرآني في توجيهه للمؤمنين لم ينغلق عن إيراد مقولات الكفار والمشركين، بل أوردها صراحة حتى تلك التي تطعن في الذات الإلهية، وقد انفتح الخطاب القرآني لذكرها والرد عليها، ومن أمثلة ذلك: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) (البقرة: 116)، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) (المائدة: 64)، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة: 30).
وفي ذلك تأسيس إسلامي لمنهج الانفتاح على الآخر ودراسته وفهم دوافعه ومقولاته ومُعتقداته في معرض الرد عليها من أرضية واثقة وقوية، ولا يتأتى ذلك دون فهم مُتعمق لهذا الطرف الآخر ودراسة حقيقية تعتنق مبدأ القبول المبدئي للاطلاع على الآراء المُخالفة ومن ثم القدرة على الرد عليها بشكل قوي ورصين.
ومن ناحية أخرى، رسخ الخطاب القرآني قاعدة التسامح باعتبارها ركناً أساسياً من أركان الإسلام السمح، وقيمة اجتماعية مهمة تُعزز وحدة المُجتمع المسلم وتحمي تماسكه من التنازع والانهيار، وقد بنى الخطاب القرآني قاعدة التسامح على الدفع بالتي هي أحسن؛ (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34)، وبالجدال بالتي هي أحسن: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت: 46)، بالإضافة إلى الأمر القرآني بالتذكير دون الإجبار (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ {21} لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية)، وسيادة مبدأ ترك الحكم بين الناس إلى الله سبحانه وتعالى فيما فيه يختلفون؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحج: 17).
وأخيراً، فإن وجه التطرف القبيح الذي ينتهجه العدو الصهيوني يجب أن يكون دافعاً لتعزيز القيم الإسلامية السمحاء التي تُقدم للعالم الوجه الحقيقي للإسلام، وتُبرز سوءات الاحتلال الغاشم وتعصبه الأعمى وانحيازه الدموي على حساب إقصاء الآخرين، وهو ما يُعزز من أهمية مراجعة إسلامية شاملة للقيم التي تُعبر عن الحضارة الإسلامية بوجهها المضيء في وجه الأمم الظلامية الدموية، ابتغاء فضح أمرها وكشف زيفها، في مواجهة أمة إسلامية سمحاء تعتز بثقافتها وتفتخر بخصوصيتها التي تميزها عن غيرها من الأمم.