ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ .. رائد المقاطعة الإسلامية (1-2) [1]
عن أبي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ– فَقَالَ: “مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟”، فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ! إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ، تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ: “لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟”، قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ، تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ!، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: “مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟”، فَقَال عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ!، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: “أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ”..
فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ! يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى الأرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟
فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ؟!، قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلا، وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” [2]
حول القصة
كانت سرية محمد بن مسلمة –رضي الله عنه– هي أول عمل عسكري بعد غزوة الأحزاب وقريظة، وقد تحركت هذه السرية في المحرم من العام السادس للهجرة في مهمة عسكرية ضد بني القرطاء في أرض نجد.. وفي طريق عودة السرية؛ تم أسر ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، والصحابة لا يعرفونه، فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فلما خرج إليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قال:
“أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ ؟ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ، أُحْسِنُوا إسَارَهُ” [3]
ورجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهله، فقال لهم:
“اجْمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ فَابْعَثُوا بِهِ إلَيْهِ” .. وقد أمر – صلوات الله وسلامه عليه – بِلِقْحَتِهِ –أي ناقته- أَنْ يشرب ثمامة من حليبها.
ولا زال رسول الله –صلى الله عليه وسلم– يتودد إليه ويتردد عليه، ويدعوه إلى الإسلام، ثم أمر أصحابه بفك أسر ثمامة.
فذهب ثمامة من تلقاء نفسه إلى نخل قريب من المسجد النبوي –ولم يذهب إلى أهله– ومن تلقاء نفسه –أيضًا-، اغتسل غُسل المسلمين، فلقد هزته الأخلاق المحمدية هزّا عنيفًا، فملكت عليه زمام قلبه، وأسرته في أسر جديد! بيد أن هذا الأسر عن طواعية.
ثم قدم إلى المسجد هذه المرة على قدم وساق، في حَبْرة وسرور، قد هطلت على وجهه مُزنة الإيمان، وتهللت أساريره بشاشة ووضائه، وإذا به ينطق كلمات ما أجملها! صدّرها بشهادة التوحيد، وثنَّاها بكلمة حق، وأعقبها بكلمة حب، وختمها باستئذان، فقد قصد العمرة، وكأنما هو جندي من أجناد الدعوة الإسلامية في عشية أو ضحاها، فأذن له قائده الذي أسره مرتين! رهبًا، ثم رغبًا، ثم علَّمه أستاذه صفة العمرة على منهج التوحيد، ولقنه التلبية خالية من الشرك، نقية طيبة.
وانتشر خبر إسلام ثمامة، سيد اليمامة، فلما قدم مكة، عيره قرشي قائلاً: أصبوت؟! أي أكفرت بدين الآباء؟! فقال -قولة من أُطعم غضارة الإيمان-: “لا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”. وهكذا يعلن هويته بين ظهراني قريش –فهو السيد القوي صاحب العزيمة- ويعتز بدينه، ويفتخر بعقيدته، ولله العزة، ولرسوله وللمؤمنين.
ثم يأخذ قراره، ويعلن موقف اليمامة المسلمة، من قريش الجائرة:
“وَلا، وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، فهي المقاطعة لمن حاد الله ورسوله..
المقاطعة لمن حاربوا الإسلام..
المقاطعة لمن عذَّبوا المسلمين وفتنوهم في دينهم..
فقد أيقن ثمامة أن واضع المعروف في غير أهله؛ كالزراع في السَّبَخ، أو كالمُسْرِج في الشمس، وأن التعاون التجاري أولى به قبائل أخرى ذات أخلاق سجيحة.
لقد لقنهم ثمامة الدرس، وأصاب المفَصْل فيهم، وشَل اقتصادهم، وجعل عيشهم رَنَق، وعذبهم أُجاج، وحلوهم صَبْر.. حتى أصابهم الضنك والضجر، فأرسل وجهاء قريش إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليخلي لهم حمل الطعام.
أدلة أخرى على شرعية المقاطعة الاقتصادية لمنتجات الأعداء
إن المقاطعة الاقتصادية لبضائع الأعداء يدخل فيها –أيضًا– قول النبي–صلى الله عليه وسلم- “جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ” [4]
والجهاد بالمال، ذلكم الفريضة له وجهان:
– وجه إيجابي بدفع المال، لتجهيز الجيش الإسلامي المحارب في الميدان أو المرابط في الثغور.
– ووجه سلبي بمنع المال، أي بعدم شراء بضائع الأعداء، وقطع أي تعامل تجاري مع العدو..
هذا، وقد قال الله تعالى: (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (التوبة:5)، وهذا نص صريح يأمر الله فيه بالتضييق على المعتدين، وحصرهم، وبذل شتى السبل الشرعية لدفع عدوانهم.
قال القرطبي: (وَاحْصُرُوهُمْ) أي: امنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام، حتى تضيقوا محلهم الواسع [5].
وقال ابن كثير:(وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي: لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع [6].
وقال الطبري: (وَاحْصُرُوهُمْ)، يقول: وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام [7].
وقال الشيخ أبو بكر الجزائري: (وَاحْصُرُوهُمْ) أي حاصروهم [8].
والحاصل أن الحصار العسكري والحصار الاقتصادي يدخلان في قوله تعالى: (وَاحْصُرُوهُمْ)، والحصار الاقتصادي له أوجه كثيرة أدناها الامتناع عن شراء بضائع العدو، أو منع إجراء أي اتفاقات تجارية معه على الصعيدين الفردي أو الجماعي..
ولقد استخدم أعداء الإسلام – في العهد النبوي – الحصار الاقتصادي والحصار العسكري ضد المسلمين، ومثال للأول: حصار شعب أبي طالب، حيث قاطع المشركون المسلمين مقاطعة شاملة وكُتبت بذلك وثيقة علقت في جوف الكعبة، واستمر هذا الحصار من المحرم من العام السابع من البعثة وحتى المحرم من العام العاشر من البعثة.
ومثال للثاني، معركة الخندق في شوال من العام الخامس من الهجرة، حيث قدم المشركون في عشرة آلاف وحصروا المدينة قرابة شهر.
مواقف من السيرة النبوية
ولقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفس السلاح الذي استخدمه أعداء الإسلام في حربهم ضد المسلمين.
فمارس صلى الله عليه وسلم أسلوب الحصار العسكري والحصار الاقتصادي أو المقاطعة أو الحصر الوارد في الآية الكريمة سالفة الذكر، في أكثر من موقف في سيرته المباركة.. وأهم هذه المواقف:
– حصاره ليهود بني قينقاع في معركته معهم في 15 شوال سنة 2 هـ/9 إبريل624، جراء ما صدر منهم من جريمة نكراء، قد تواطئوا فيها على كشف عورة سيدة مسلمة في مكان عام، وتواطؤهم على قتل رجل مسلم، دافع عن عرض السيدة المسلمة وحاول رد العدوان.
– حصاره صلى الله عليه وسلم ليهود بني النضير في معركته معهم في ربيع الأول سنة 4 هـ – أغسطس 625م … بعد أن خططوا لعملية اغتيال فاشلة لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
– حصاره صلى الله عليه وسلم ليهود بني قريظة –لعنهم الله- في معركته معهم في (ذي القعدة 5 هـ – إبريل 627 م)، بعدما خانوا أهل المدينة وتحالفوا مع المحتل أثناء معركة الأحزاب.
__________________________________________________
[1] – الكاتب: محمد مسعد ياقوت – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
[2] – البخاري : 4024
[3] – ابن هشام 2/638
[4] – النسائي: 3045، عن أنس، وصححه الألباني، حديث رقم: 3090 في صحيح الجامع.
[5] – تفسير القرطبي 6/320
[6] – ابن كثير: 4/111
[7] تفسير الطبري 14/134
[8] – أيسر التفاسير للجزائري – (ج 2 / ص 61)