منذ أن وصل الإسلام إلى الصين، كان المسلمون يعيشون في تجمعات خاصة بهم في المدن الساحلية جنوب وشرق الصين، وكان وجودهم وانتشارهم في الداخل الصيني محدوداً للغاية، إلى أن جاء عصر أسرة يوان (1271 – 1368م) حين حكم المغول الصين، فاعتمدوا على المسلمين في إدارة البلاد، وظهرت كثير من الشخصيات المسلمة الشهيرة في ذلك الوقت.
من هؤلاء كان ناصر الدين ابن الوزير الشهير شمس الدين عمر، وقد ورث ناصر الدين والده في العدل والنزاهة والسعي لإرضاء الشعب والتخفيف عنه، حتى لقب بوزير الشرف والكرم.
وقد انقسم أولاد ناصر الدين من بعده إلى 4 عائلات هي «نا»، «سو»، «لا»، «دين»، وهو النطق الصيني لكلمة ناصر الدين، وانتشروا في مناطق الصين المختلفة، لكن تعد عائلة «نا» هي الأكبر من بين العائلات الأربع، بل وبين كل عائلات المسلمين في الصين.
ويعش أبناء عائلة «نا» في مناطق الصين المختلفة، لكنهم يتركزون في مقاطعة يوننان جنوب غرب الصين مسقط رأس جدهم ناصر الدين، ولهم بيوت ومساجد تحمل اسم عائلة «نا»، كما يتركز جزء كبير منهم في منطقة نينغشيا شمال غرب الصين، ولهم هناك قرية تضم 700 أسرة، يبلغ عدد أفرادها أكثر من 4000 شخص.
وتضم القرية مسجداً يحمل اسم العائلة يرجع تاريخ بنائه إلى ما قبل 500 سنة، تنتشر حوله بيوت أبناء العائلة ومقابرهم.
ويعرف عن عائلة «نا» اهتمامها بتعليم أبنائها منذ قرون؛ لذا فقد برز منهم كثير من الشخصيات البارزة على مر العصور.
أعلام اللغة العربية من أسرة «نا»
في ثلاثينيات القرن العشرين، طلبت جمعية التقدم الإسلامية من جامعة الأزهر إرسال عدد من الطلاب المسلمين لاستكمال الدراسة في مصر، وكان من بينهم اثنان من عائلة «نا»، هما: نا تشونغ، وناشيون، وقد قضى كل منهما 8 سنوات، عادا بعدها إلى الصين واستكملا مسيرتهما العلمية في مجال اللغة العربية.
نا تشونغ
اسمه العربي عبدالرحمن، ولد عام 1909م في أسرة لقومية هوي المسلمة في قرية ناجياينغ بمحافظة تونغهاي من مقاطعة يون نان، وتعلم القراءة والكتابة واللغة العربية في كل من مسجد يونغ نيانغ بمدينة كونمينغ، ثم سافر للدراسة في مصر رفقة محمد مكين عام 1931م.
تخرج ناتشونغ في جامعة الأزهر عام 1940م، وقفل عائداً إلى الصين، وبعد عودته عمل مباشرة مديراً بالنيابة لمدرسته الأم مدرسة مينغدا في مقاطعة يوننان، ثم استقدم عام 1942م إلى الجامعة المركزية (جامعة نانجينغ اليوم) حيث عمل أستاذاً في تاريخ العرب وتاريخ العالم العام واللغة العربية.. إلخ.
ومنذ نهاية الستينيات، عمل أستاذاً للغة العربية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، وشغل مناصب عدة، منها عميد كلية اللغات الأفروآسيوية، ومدير قسم اللغة العربية وعضو في مجالس التدريس والبحوث والشهادات العلمية في المعهد.
وفي عام 1981م صار أول أستاذ جامعي في الصين يشرف على طلبة الدكتوراة في التاريخ العربي والحضارة العربية، وتخرجت على يديه أول باحثة صينية نالت الدكتوراة في التاريخ العربي.
أنجز الأستاذ نا تشونغ أكثر من مائة بحث، وبضعة وعشرين كتاباً في تاريخ العرب والبلدان الإسلامية، أشهرها كتاب «تاريخ العرب» الذي نال به جوائز عدة على مستوى الدولة، وكتاب «تاريخ البلدان الإسلامية» الذي تناول فيه تاريخ الوطن العربي، وترجم فيه لعدد كبير من مشاهير العرب والمسلمين.
كما أشرف على تأليف بعض الكتب المدرسية، منها سلسلة كتب «اللغة العربية» التي تقع في 10 مجلدات، وتعتبر أول مجموعة متكاملة من الكتب المدرسية الأساسية في تدريس الصينيين اللغة العربية، و«القواعد الأساسية للغة العربية» التي تقع في 4 مجلدات، وتعد الأولى من نوعها في الصين، وبفضل جهوده الدؤوبة أرسى أساساً متيناً لتنمية قضية تعليم اللغة العربية ودراسة الثقافة العربية في الصين وتخرجت على يديه دفعات متعاقبة من الكوادر الناطقين بالعربية.
كان لنا تشونغ تأثير كبير في الأوساط العلمية الصينية، وقد انتخب رئيساً للجمعية الصينية لتاريخ أفريقيا، وعضواً في اللجنة الدائمة للجمعية الإسلامية، وعضواً في اللجنة العلمية لمعهد بحوث التاريخ الأجنبي التابع لأكاديمية العلوم الاجتماعية الصينية، وعضواً في جمعية دراسات آسيا الغربية وأفريقيا.. إلخ.
وفي عام 1991م، تم اختياره من قبل مركز كامبريدج الدولي للمشاهير، وأدرج اسمه ضمن المعجم الدولي للمشاهير، كما حصل على جائزة الشارقة للثقافة العربية من قبل «اليونسكو»، فأصبح أول شخص غير عربي يحصل على هذه الجائزة.
ناشيون (1911 – 1989م)
اسمه العربي نور محمد، ولقبه جيان هنغ، ولد في عائلة مسلمة في قرية ناجياينغ من محافظة تونغهاي بمقاطعة يوننان جنوب غرب الصين، وينسب لعائلة «نا» الشهيرة في يوننان التي ينسب لها الأستاذ نا تشونغ، عضو البعثة الصينية الأولى.
وقد درس العلوم الإسلامية منذ صغره، ثم التحق بمدرسة مينغ ده وتخرج فيها، ونظراً لتفوقه؛ فقد تم اختياره ليكون ضمن البعثة الصينية الثالثة التي سافرت للدراسة في الأزهر عام 1934م.
خلال دراسته في مصر، قام بترجمة بعض الأعمال الأدبية الصينية المشهورة قديماً وحديثاً إلى اللغة العربية، منها: «ما قاله صياد الثعبان» للأديب ليو تسونغ يوان في عهد أسرة تانغ الملكية، ورواية «الطائر الورق» للأديب لو شيون، ومقال نثري بعنوان «المنظر الخلفي» للأديب تشو تسي تشينغ، و«الوصية الأخيرة» للوفونغ، ومسرحية «عاصفة رعدية» للأديب تساو يوي، وتم نشر ترجماته هذه في مختلف الصحف المصرية الكبرى بحيث فتح الباب أمام دخول الأدب الصيني إلى العالم العربي.
وفي عام 1947م، أكمل دراسته في مصر عائداً إلى وطنه فعمل على التوالي ناظراً لمدرسة مينغ ده بكونمينغ حاضرة مقاطعة يوننان، ورئيس التحرير لجريدة «التوعية الإسلامية» الخاصة بقومية هوي، وفي عام 1955م انتقل إلى اتحاد الفنون والثقافة في مقاطعة يوننان عاملاً على ترجمة روائع الأدب العربي إلى اللغة الصينية، وإلى قسم الترجمة والتحرير بدار الشعب للأدب ببكين.
في عام 1960م بدأ يعمل على ترجمة مجموعة الحكايات العربية الشعبية «ألف ليلة وليلة» إلى اللغة، ونجح في أوائل أربعينيات القرن العشرين في ترجمة المجلدين الأول والثاني اللذين يضمّان حوالي 500 ألف كلمة صينية، وتم نشرهما من قبل دار النشر التجاري بشانغهاي موزّعين في 5 أجزاء.
وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية، قام تلبية لطلب من دار الشعب للأدب بإعادة ترجمة «ألف ليلة وليلة»، وعلى إثر ذلك انتقل إلى قسم الترجمة والتحرير بدار الشعب للأدب حيث انكب على الترجمة الكاملة لكتاب «ألف ليلة وليلة» في خلال أكثر من 20 سنة، وانتهى عام 1985 من ترجمة كل المجلدات الستة التي تقع في أكثر من مليوني كلمة صينية بعد بذل الجهد الجهيد، مما جعلها خير شاهدة على التبادل الثقافي بين الصين والبلدان العربية وثمارا يانعة لافتة لأنظار الناس.
وقد لقيت النسخة الصينية إقبالاً واسعاً من القرَّاء، وتظل من بين الكتب الأكثر مبيعاً، فأعيدت طباعتها مرة تلو أخرى، والأكثر من ذلك قام بتحرير ونشر نسخة مشوقة خاصة بالأطفال والصبيان عام 1986م تلبية لرغباتهم في قراءة الحكايات الخالدة في «ألف ليلة وليلة».