سيمُرُّ الطوفان، وبعد أن يجرف في طريقه منازل وطرقا وبشرا، ويسبب آلاما ودمارا ودماء، سيخلف وراءه تربة جديدة، وحياة جديدة.
هكذا اقتضت حكمة الله وتدبيره في حفظ التوازن الكوني.. اقتضت أن يكون الطوفان على ما به من آلام ودمار بداية جديدة تتجدد فيها الحياة على سنة الله الجارية بلا توقف منذ بدء الخلق إلى منتهاه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}.
وكما يكون الطوفان تدبيرا إلهيا بظواهر طبيعية، كذلك يكون تدبيرا إلهيا في الأحداث السياسية والحربية في تاريخ البشرية؛ فالحرب العالمية الأولى كانت طوفانا جرف في طريقه إمبراطوريات وممالك وغَيَّرَ خريطة العالم، اختفت الإمبراطورية العثمانية، وروسيا القيصرية، والإمبراطورية النمساوية الهنجارية (هابسبرغ) وغيرها، وانحسر الطوفان عن دول جديدة، وأصبح ملوك الأمس مشردين في الأرض، ثم تلاه طوفان الحرب العالمية الثانية، وتم إعادة الخارطة السياسية للعالم مرة أخرى في أقل من ثلاثين سنة، واختفت الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، وظهرت أمريكا كقوة عالمية جديدة، وظهر على الخريطة الخنجر المسموم المسمى “دولة إسرائيل”، كركيزة للدول الاستعمارية المنسحبة ظاهرا من المنطقة.
ونحن الآن أمام طوفان جديد أشبه بالمعجزة، لم تصنعه دولة عظمى، ولا حرب نووية، ولم يفرضه بكاء وعويل واستجداء للسلام؛ بل فرضه أبطال الميدان ورجال المقاومة وسط مساحة محاصرة يقطنها ما يزيد عن مليونين من البشر.
طوفان يرى الناسُ فيه دمارا وخرابا لحق بأهل غزة، لكنه أيضا جرف ما يزيد عن سبعين عاما من الأساطير المؤسسة للدولة التي ولدَت لتبقى؛ لأن أباها أمريكا وأمها أوروبا، جرف أسطورة الجيش الذي لا يُقهَر، ومخابراته التي تراقب دبيب النمل، جرف أسطورة السمن والعسل والأمن والأمان الذي ينتظر شُذَّاذ الآفاق في المستوطنات الصهيونية، جرف أسطورة الشِرعَة الدولية وأسطوانة الطرب الغربية بحقوق الإنسان، ونزع مسوح المبشرين الغربين بالقيم الأوروبية.
وفوق كل هذا؛ جرف في أمتنا أوهام الضعف والدَعَة والاستكانة والخوف والرضا بالذل، محا كلمة “مستحيل”، ومحا معها كلمة “سهل”؛ فلا شيء مستحيل، ولا شيء سهل، ولكن إيمان وإرادة وعزم وتخطيط، يرافقه تضحية وعمل وبذل.
طوفان الأقصى تجاوزت حدوده الآفاق، وامتد أثره لكل بيت في العالم، ووضع أجندته على طاولة السياسة الدولية كأولوية أولى لمشكلات السياسة الدولية.
وستنحسر مياه الطوفان عن خريطة جديدة، ووضع جديد ولن يكون ما بعد الطوفان كما كان قبله على الإطلاق، إذا اختفت منها “حماس” -لا قدر الله-، فقد تكون دافعا للكيان الصهيوني وتحت نشوة وهم الانتصار، وقوة الدعم الأمريكي الغربي في إنجاز حلمهم التوراتي، وهدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان، واستكمال خطتهم في القضاء على المقاومة، وإخضاع الشعوب العربية كلها تحت سطوة تطبيع قسري مع الأنظمة العربية. أو ظهور حركات جديدة تجعل الصهاينة وأعوانهم يترحمون على “حماس”.
وقد تفشل أمريكا وذراعها الصهيوني في القضاء على “حماس”، وتخرج من المعركة رقما صعبا لا يمكن تجاوزه، وتضطر جميع الأطراف الدولية والإقليمية للتعامل معها بصفتها قوة قائمة على الأرض، ويزداد زخم المقاومة وتفك الشعوب العربية قيود الاستبداد والاستغفال، وتزداد موجة صحوة الشعوب الحرة في العالم للتخلص من سطوة الطغمة التي تحكم العالم لصالح فئة محدودة تتحكم في موارد الأرض.
وأيا كانت النتيجة، ستنحسر مياه الطوفان عن تربة جديدة، طميها من دماء الشهداء، ونَبتُها من بذور المقاومة والانتصار، وستُثمِرُ مزيدا من الأبطال، وستعيدُ الحياة لأمة لا حياة لها إلا بالمقاومة والجهاد، وسيبلغ أثرها ما بلغ الليل والنهار.
وإن غدا لناظره قريب.