إن قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تتقدم!
ويسوءني أن أكون نذير سوء؛ ولكن لأن نواجه الحقائق الواقعة، خير من أن نستنيم للأحلام.
حينما صدر الكتاب الأبيض الإنجليزي أعلن كل عربي مخلص أنه لا يرضى عن هذا الكتاب، وأنه صدمة لآمال العرب بما نظمته من استمرار الهجرة الصهيونية فترة أخرى، وإن تكن موقوتة، تصبح بعدها الهجرة مرهونة بمشيئة العرب، إن شاءوا أمضوها، وان شاءوا لم يسمحوا من بعد بها.
واليوم يتمسك العرب بسياسة الكتاب الأبيض، ويدعون إنجلترا للمحافظة عليها، وهم يرون في تصريح (بيفن) الأخير نقصاً لها، واستمراراً في الهجرة إلى غير موعد!
إذن قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تتقدم!
تتأخر، فيصبح الكتاب الأبيض الذي كان بالأمس موضع شكوى العرب، وهو موضع رجائهم. وينقلب الحد الأدنى – أو ما هو دونه – حداً أعلى لآمال العرب أو الناطقين باسمهم في هذه الأيام.
ألا إنها المحنة التي يجب أن تتفتح عليها الأبصار!
فلننظر فيم كان هذا الانقلاب؟
صدر الكتاب الأبيض بالأمس ترضية للعرب الثائرين الساخطين، فرفضوه واستصغروه. فلما سرى البرد إلى دمائهم الباردة ودب الخدر إلى أعصابهم الثائرة، رضوا عن الكتاب الأبيض، ووقفوا ينتظرون. . .
وألغي الكتاب الأبيض اليوم ترضية للصهيونيين الثائرين المعتدين، يرفضون إلغاءه ويستصغرون اقتراحات (بيفن) الأخيرة، لأن العرب لا يزالون في خدر لذيذ يستنيمون إليه. . . ذلك أنهم يثقون بالضمير البريطاني!!!
ومن هنا نستطيع أن نعرف: متى يسترضينا الإنجليز، ومتى يسترضون الصهيونيين؟!
فلننظر إلام تؤدي اقترحات (بيفن) الأخيرة؟
ستفتح أبواب الهجرة الصهيونية بعد إغلاقها، وستؤلف لجنة تحقيق – لم تؤلف بعد – لتنظر في قضية فلسطين وقضية اليهود عامة. وما دامت هذه اللجنة لم تنته من تحقيقاتها واسعة المدى فسيظل سيل الهجرة يتدفق على فلسطين!
أهي سنةٍ؟ أم سنتان؟ أم خمس سنوات؟ أم هي التعلة الدائمة لاستمرار الهجرة إلى غير ميعاد؟ فإن ضجر العرب يومذاك أو تبرموا كانوا قوماً عجلين، لا يريدون أن تعمل اللجنة في جو هادئ، ولا يمكنون للحقائق في الظهور!
ثم يوجد من العرب من يرى في مثل هذه الاقتراحات أساساً صالحاً لقضية فلسطين.
ألا إنها المحنة التي يجب أن تتفتح عليها الأبصار!
للإنجليز أن يهللوا لاقتراحات (بيفن) الأخيرة؛ فهي انتصار للسياسة الإنجليزية التقليدية. . . انتصار لها من شتى الوجوه:
1 الانتصار الأول جر أمريكا لاحتمال التبعات في فلسطين دون أن يكون لها شيء من المغانم! وتصوير هذا بأنه استماع لصوت أمريكا في حل القضية المعقدة التي استطاع الصهيونيون الأثرياء أن يحركوا لها (ترومان) وسواه. فإذا انتهوا إلى حل فلن تستطيع أمريكا رفضه وهي الشريكة فيه!
2 والانتصار الثاني تثبيت صفة الانتداب الإنجليز على فلسطين باسم جديد (الوصاية) باعتراف من الولايات المتحدة في هذه المرة، فلقد كان الانتداب من (عصبة الأمم) التي اعتزلتها الولايات المتحدة وكان المرجو هو استقلال فلسطين!
3 –والانتصار الثالث هو (التأجيل) طابع السياسة الإنجليزي الأصيل، فالتأجيل وترك العقدة للزمن يحلها الحل المناسب هو الطابع الدائم للسياسة الإنجليزية، وبخاصة مع الأمم الصغيرة الثائرة لحقوقها المهضومة، والزمن دائماً في صف الأقوياء لا الضعفاء – وهذه الاقتراحات الأخيرة تضمن للسياسة التقليدية أقصى مدى؛ لأنها في أيدي لجنة تحقيق لا يجوز أن يستعجلها أحد عن استجلاء الحقائق! وإلا كان متعنتاً لا يريد للحقائق الظهور!
4 والانتصار الرابع هو التوفيق بين سياسة الأحزاب الإنجليزية كلها في علاج قضية خارجية، والإنجليز يبتهجون لمثل هذا التوفيق لأنهم جميعاً إنجليز!
للإنجليز أن يهللوا لهذه التصريحات الأخيرة في صحفهم عامة، ولكن ليس للعرب أن يُخدعوا بهذا التهليل؛ لأن لهم في القضية موقفا آخر يستدعي التفكير المستقل عند النظر في الأمور، وقضية فلسطين قضية عادلة لا يضيرنا فيها التحقيق؛ ولكن متى كانت عدالة القضايا الوطنية كافية لتقرير الحق في الأمور؟
والآن. . . ما هو طريقنا المأمون!
طريقنا ألا نثق بضمير أحد، فما لأحد في العالم الغربي ضمير! لقد برهنت هذه الحضارة الغربية على إفلاس في الضمير لا عهد للعالم به في جميع الحضارات السابقة.
وقبل أن نثق بالضمير الأوربي أو الأمريكي، يجب أن نتذكر لفرنسا حوادث سوريا ولبنان – وهي قريبة لم تغب عن العيان – ويجب أن نذكر لإنجلترا يوم 4 فبراير الشنيع؛ ثم موقفها في إندونيسيا – وهو حاضر الآن – ويجب أن نذكر لأمريكا نداء (ترومان) ونصرته للصهيونيين!
طريقنا ألا نثق بضمير أحد، وألا نستنيم لدعوة مّا من دعوات الثقة بهذا الضمير.
وطريقنا ألا نستنيم لمخدرات التأجيل إلا إذا وقفت الهجرة وقفاً تاماً حتى يتم التحقيق، فلقد رأينا أن الزمن ليس في صالحنا بضمته شاء أحد أن يستنيم فليتذكر متى صدر الكتاب الأبيض بوقف الهجرة الصهيونية في موعد محدد، ولماذا صدر هذا الكتاب، ثم ليتذكر متى ألغي الكتاب الأبيض وأبيحت الهجرة من جديد، ولماذا كان هذا الانقلاب؟
صدر الكتاب الأبرياء ترضية للعرب الساخطين الثائرين، وصدر تصريح بيفن الأخير ترضية لليهود المعتدين الإرهابيين!
وطريقنا أن يرد زعماء الأمة العربية ما بأيديهم من السلطة إلى هذه الأمة نفسها لترى رأيها في الموقف الجديد، فهي صاحبة الأمر قبل الزعماء أجمعين.
ولأطلقها صيحة صريحة قاسية:
أيتها الأمة العربية: احذري حتى رجال السياسة من أبنائك، لا لأنهم قد يخونونك أو يخدعونك، ولكن لأنهم هم قد يخانون ويخدعون! ولأن كراسي الحكم قد تكون في بعض الأحيان وثيرة إلى حد تستنيم له الأعصاب الثائرة وتنحدر فيه الدماء الفائرة!
أيتها الأمة العربية: خذي الأمر في يديك من جديد، فإني أرى موقفا يستدعي جهود الشعوب نفسها لا جهود الزعماء منفردين.
وما يخدعك أيتها الأمة – في كل قضاياك الوطنية لا في قضية فلسطين وحدها – إلا مخدوع يقصيك عن الأمر ويستنيم للوعود!!!