لفت انتباهي خبر سابق أنّ واشنطن رفضت الدعوات الدوليّة المستمرة لوقف إطلاق النار في غزّة مؤكدةً بأنّها “لن تفرض على إسرائيل خطوطاً حمراء”! هذا التأكيد من قبل واشنطن على الخطوط الحمراء ما هو إلا تسويقٌ مفروض للوقائع بما يعزز من قوة الآلة “الإسرائيلية”، ويطمئن الحكومة “الإسرائيلية” حول الدعم الكبير غير المشروط، وعليه لا تتدخل واشنطن بالعمليات العسكرية سواء كانت محدودة أو موسعة داخل القطاع، وفي المقابل يتعين على فصائل المقاومة الفلسطينية الدفاع المشروع بالمواجهة العسكريّة دون ترددٍ أو تخوّف لما ستؤول وآلت إليه الأحوال بالنسبة لحجم الخسائر البشرية والماديّة لأهلنا في قطاع غزة، ومعاناتهم من جراء نفاذ الماء وانقطاع الكهرباء ومرارة تحصيل لقمة عيشهم.
واستوقفني مؤخراً ما تداولته وسائل الإعلام عن قيام بعض رجال الأعمال في الولايات المتحدة بإطلاق حملة لمساعدة “إسرائيل” تهدف إلى جمع أموال من 50 مليارديراً تبلغ نسبة ثرواتهم نحو 500 مليار دولار، لكن الحملة شملت جانب الإعلام كذلك الأمر، حيث تبث عبر وسائلها وصفحاتها مقاطع وتقارير تحمّل حركة “حماس” سبب محنة الفلسطينيين، وتسلّط الضوء على مزاعم الانتهاكات الحقوقية “الإسرائيلية” من خلال تلفيقهم التّهم الجاهزة على سلوكيات “حماس” في معاملة الأسرى والتي لا تصدقها إلا جهات التطبيع العربي، ولكن سرعانَ ما تبدّد الغيم وانكشفت حيلهم بدحضها ضمن سجلّات التوثيق المصورة والمعلنة عبر شاشات التلفزة، كما ورّطت الادعاءات والافتراءات “الإسرائيلية” الرئيس الأمريكي بتصريح عارٍ عن الصحة يروّج للإرهاب الذي في مخيلتهم.
عملية طوفان الأقصى:
استفاق العالم على إعلان فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بتاريخ 7 أكتوبر 2023م عن عملية عسكرية رداً على الهجمات المتكررة لحرم المسجد الأقصى واعتداء المستوطنين “الإسرائيليين” على الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية وبعموم الداخل المحتل.
وما لبثت أيام وفي خضم حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، والقصف “الإسرائيلي” علت وتيرته للقضاء على المقاومة، حتّى خرجت أصوات عربية تعبث في مضمون الحدث وأهميته، بنشر الغوغاء التي تشوش على أحقيّة الدفاع المشروع عن الوطن، متجاهلةً أنّ سلاح الحجارة كان أول الانتفاضات الفلسطينية.
لم تكن عملية طوفان الأقصى مجرد تسجيل نقاط لصالح المقاومة أو رداً على سلسلة الهجمات “الإسرائيلية”، إنّما هو طوفان حقيقي يثبت العقول والحقوق، وينتزع حلوق العملاء المتعاونين مع الصهاينة، ويحشر محور الشر في الزاوية رعاة الاحتيال والغزاة، ويُحرج النّظام السوري في دمشق كونه يحتفظ بحق الرد عقب الغارات “الإسرائيلية” على الأجواء السوريّة، كما ويفتح المجال أمام حسن نصر الله أمام الميكرفون في مشهدٍ يجلجل النّاظرين! فتبدأ الموجات الصوتيّة بالتّذبذب على وقع أعمدة الكهرباء والأجهزة السلكية واللاسلكية.
في واقع الحال تكمن الإشكالية فعليّاً فيما ينشر في هذا التوقيت بالتّحديد بقصد استهداف فصائل المقاومة الفلسطينية، حتى يسهل تفكيكها والقضاء عليها، ولأنّ كلّ صوت خارج عن المألوف يصب في صالح الاحتلال “الإسرائيلي”، وبدورنا ندعو إلى توضيح المسار، وضبط بوصلة أولوية القضايا العادلة التي نحاول التمسك بها، مع تقديم الحدث الساخن اللاحق على السابق البارد، لكنّ الأصوات العبثية تنتهج نفس خطة العدو في التضليل والتّرويج لفكرة الإرهاب.
محطات على وقع الحروب:
لسان الحال وأمام غطرسة الاحتلال الكل سواسية في سياق المجريات وأشدّها ضراوةً، فماذا يفيد التّحليل السياسي والعقائدي والنّفسي لمقاتلي “حماس”؟! لا شيء سوى إضفاء الشرعية على قتل المزيد من المدنيين بحجة أنّهم الحاضنة الشعبية لهم، إذن لا تفتأ هذه الأصوات عن الكيل بمكيال الإنسانيّة الغراء التي تتباكى على الجلّاد بكل صفاقة، وبالتالي توسع دائرة الظل في وسائل التواصل الاجتماعي لتكمل حلقاتها بوجوه غير مشبوهة بل حسابات معروفة وهنا المفاجأة، أو بالرجوع إلى الدّم السوري الذي سُفك من نظام الأسد وإيران كذريعة، وإيران التي لها يد طولى في بلاد العرب.
تعد مسيرة “حماس” وأبرز محطاتها التاريخيّة الأكثر شيوعاً في القراءة الالكترونيّة، انطلاقاً من انتفاضة الحجارة في الثمانينات التي أعادت هيكلة الحركة وتنظيم صفوفها من جديد، وصولاً إلى انتفاضة الأقصى الثانية بسبب تدنيس شارون لساحة المسجد الأقصى في 28 سبتمبر 2000م حيث نجحت “حماس” في تنفيذ العمليات الفدائية وقتلت عشرات الصهاينة، ثم إلى خوضها ومشاركتها في عام 2005م بالانتخابات التشريعية، وتم الإعلان عن نتائج الانتخابات في 26 يناير 2006م بفوز “حماس” بـ 76 مقعداً من أصل 132 مقعد، وهكذا حتّى سيطرت “حماس” على قطاع غزة بعام 2007م، مما دفع بـ “إسرائيل” إلى فرض حصار بحري وبري وجوي على القطاع، كما وأغلقت المعابر الحدودية، ومنعت الأهالي من الدخول والخروج، ومنعت دخول البضائع إلى القطاع إلا بضعةَ من بعضٍ لا تذكر، بما فيها قطع الوقود.
وفي أواخر عام 2008م تعرّض قطاع غزّة إلى حرب شرسة من أجل إسقاط حكم “حماس”، فقامت “إسرائيل” باغتيال شخصيات من القيادات الفلسطينية أمثال: نزار ريان وسعيد صيام، وقتلت مئات الفلسطينيين، وفي نوفمبر 2012م نفس الشيء تعرّض القطاع لحرب “إسرائيلية” أخرى، الأمر الذي جعل كتائب القسام ترد عسكرياً بإطلاق صواريخ على تل أبيب ومدينة القدس المحتلة فقتلت العشرات وأوقعت العديد من الإصابات، فاستنجد الاحتلال بواشنطن طالباً التهدئة وما أشبه اليوم بالأمس.
الشأن الفلسطيني يدركه القائمين عليه، لأنّ فلسطين مازالت محتلة مغتصبة، ولأنّ كل قضية وطنيّة عند أصحابها تعتبر هي الأولى والأشد مقارنة مع قضايا المنطقة، فنحن هنا لسنا بصدد جلد المقاومة الفلسطينية، ولا محاسبتها عندما تقبل الدعم من إيران دون تذكر الدّم السوري وقضيته، ومن المعلوم بأن الاستعانة بعدو لقتال عدو آخر جائز شرعاً، مثل أيام الحرب السوفيتية في أفغانستان وقتها استعان الأفغان بأمريكا.
في نهاية الأمر لا يمكن تغطية الشمس بغربال، وسواء كانت إيران على اتفاق مع “حماس” في قرار الحرب أم لا فلا يهم، وإن لا يخلو الأمر من ورقة الابتزاز الإيراني التي تهدد بها الغرب والولايات المتحدة عند اللزوم عبر البرنامج النووي ونسب تخصيب اليورانيوم الذي تعدى حاجز المتفق عليه دولياً مع الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن ضمن صفقة إيران، فما تخوضه فصائل المقاومة الفلسطينية ليس نضالاً تاريخياً فحسب، وإنّما ملحمةً تُسطر أحداثها مع كل طلقةٍ ورصاصة، وتجمع ببطولاتها رصيداً للأمة والمجتمع، وتعكس المرآة نحو واقعٍ عربيّ نأسف عليه، فعملية طوفان الأقصى فضحت سراديب العالم، وطمست الخطوط الحمراء لتصبح لا لون لها عند أبناء الوطن.. فأيّها المارُّون انصرفوا… آن أن تنصرفوا.