في صراع طويل ممتد، مثل الصراع مع الكيان الصهيوني، فإن ساحات المواجهة تمتد وتتنوع، وتشمل مختلف الساحات وجميع الوسائل؛ لأن المحتل الغاشم لا يترك ساحة ولا وسيلة لتثبيت سيطرته وضمان تفوقه، إلا سلكها.
فالاحتلال يحاول أن يفرض سيطرته ويثبِّت نفوذه عبر الساحات العسكرية والاقتصادية والثقافية والديمغرافية وغيرها؛ وبوسائل القوة تارة، والخداع تارة أخرى، والإغراءات والعوائد تارة ثالثة؛ كما أنه يحاول أن يُمدد شبكة علاقاته مع المستويات الشعبية تمامًا كما يفعل مع المستويات الرسمية.
ومن المهم قبل أن نجيب عن سؤال: لماذا دور الشعوب مهم وضروري في مقاومة التطبيع؟ أرى أن نتطرق إلى سؤال: لماذا هو؛ أي الكيان الصهيوني، حريص على التطبيع مع الشعوب وإدخالها ضمن منطقته التي يديرها ويأمن شرها، دون الاكتفاء بما يحققه على المستويات الرسمية؟
لماذا التطبيع يستهدف الشعوب؟
الكيان الصهيوني جسم غريب على بلادنا العربية والإسلامية، زُرع في قلبها لتفتيت وحدتها، ومنع أي مشاريع نهضوية وأي مظاهر وحدوية يمكن أن تجمع العرب وتعيد توجيه طاقاتهم، وما أكثر ما يجمع العربَ! وما أسهل ذلك! لو أزيلت الموانع الخارجية، التي جعلت من هذا الكيان الغريب أداتها النافذة لمنع هذه التطلعات المشروعة لأبناء الأمة.
وهذا الجسم الغريب يدرك جيداً أنه ليس له أن ينعم باستقرار ولا أن يحقق سياسات وأهدافاً، يتبنَّاها هو من ناحية، ورُسمت له من ناحية أخرى؛ طالما أن الشعوب تضع الحواجز الكثيفة بينه وبين التغلغل في النسيج العربي والإسلامي.
وما دامت محاولات التطبيع تقف عند حدود السياسة؛ فإنها بذلك تقف عند الحد الأدنى من الطموح، الذي يكون حداً هشاً معرَّضاً لأي اهتزازات مفاجئة كما حدث منذ نحو 10 سنوات، حين استعادت الشعوب العربية بعض وعيها وإرادتها؛ فكان مما أجمعت عليه وبادرت إليه هو إعادة النظر في الموقف من الكيان الصهيوني، وإن لم يتبلور ذلك في خطوات محددة.. لكنَّ هتافات الميادين حينئذ أظهرت الرغبات المكبوتة، وأعلنت عن الموقف الحقيقي من هذا الكيان، وكان لها أن تأخذ مجراها بعد ذلك، لو امتلكت عامل الوقت.
فجأة، وعلى حين غفلة، حتى من الشعوب ذاتها -وهذه إحدى مفارقات «الربيع العربي»- وجد الكيان الصهيوني نفسه غارقاً في رأي عام ينتشر ويتمدد معلناً عن قناعته وعقيدته في قضية العرب والمسلمين المركزية، ورافضاً لأي محاولات تمَّت من قبل في ظروف ما، ومستعداً للذهاب لتصحيح الأوضاع الخاطئة.
موقف مثل هذا، لا شك أنه يجدد الهواجس التي لم تبرح الكيان الصهيوني، في عدم الشعور بالأمان، وعدم القدرة على تحقيق المخططات الكبرى؛ ما لم يتخذ خطوات جادة وفعالة في كسب الشعوب، وتمتين العلاقات معها، كما هي الحال في مستويات السياسة.
هذه نقطة.. والنقطة الثانية التي تفسر: لماذا التطبيع يستهدف الشعوب؟ تتمثل في أن التطبيع لا يقف عند حدود السياسة، وإنما يتطلع لآفاق الاقتصاد، مدركاً أن الشعوب العربية تمثل سوقاً ضخمة عريضة متوسعة، وهي سوق ذات إغراءات هائلة لأي استثمارات(1)، ولا يمكن التعامل مع هذه السوق، وجَنْي ثمارها ما دام التطبيع واقفاً عند أبواب السياسة، لم يغادر مرحلة البرود إلى مرحلة الدفء!
فهذا التطبيع الاقتصادي سيمكِّن لِمَا تم إنجازه في المستوى السياسي، ويجعله قائماً على تبادل المصالح والمنافع، وليس مجرد علاقات باردة قابلة للاهتزاز، أو على الأقل للتجميد، في أي لحظة عابرة من لحظات الشعوب التي من الممكن أن تأتي على حين غرة.
بل إننا رأينا في بعض الأحيان مشاريع للتطبيع الاقتصادي تسبق التطبيع السياسي -أو تُغري به- وكأنها تقول بلسان الحال: هذا ما سنجنيه معاً لو أقمنا علاقات سياسية(2)! بجانب أن هذه المحاولات تحاول أن تقفز على ما يقف أمام التطبيع السياسي من مشكلات، نتيجة عدم رغبة الكيان الصهيوني في التنازل عن أي مكتسبات انتزعها؛ مما أصاب مشاريع التطبيع السياسي بالجمود أو التردد؛ فكان لا بد من القفز على ذلك، وإحلال المصالح محل الحقوق، وجَعْل الاقتصاد بديلاً عن السياسة.
__________________________
(1) يقول د. عبد الوهاب المسيري: «يتبدى شذوذ «إسرائيل» البنيوي بشكل واضح في علاقتها بالفلسطينيين ومحاولتها الدائبة أن تحاصرهم مجازياً وفعلياً، وأن تفتت وجودهم القومي، وأن تضرب عليهم بيد من حديد، وأن تستغلهم باعتبارهم مادة بشرية وسوقاً للسلع؛ كما يتبدى في علاقتها بالعالم العربي الذي تراه باعتباره «المنطقة»؛ أي مجرد مكان لا تاريخ له ولا اتجاه؛ ولذا، فهي تعتبره سوقاً للسلع ومصدراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة وحسب، وتطرح السوق الشرق أوسطية بديلاً للسوق العربية المشتركة»، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (المختصرة)، (2/ 367، 368).
(2) للدكتور جلال أمين مناقشة مستفيضة لمزاعم المروجين لما أسموه «السوق الشرق أوسطية»، في كتابه «المثقفون العرب وإسرائيل» (ص 79) وما بعدها، مع ملاحظة أن هذا المصطلح اختفى من على الساحة، بعد انكشاف أمره وتهافت حججه؛ لكن مضمونه ما زال قائماً، ومشاريعه تتبلور يوماً بعد آخر.