مقاوم يقفز في الهواء، يطلق صيحته في الفضاء: «وَلَّعت»! إنسان حر كموج البحر، حياته في الحركة، لا يقر له قرار، ولا يرسو عند ساحل، مهما وضعوا أمامه من سدود كسرها، ومهما علت أسوارهم علاها، وكلما أحكموا الحصار تحول إلى إعصار، وكلما منعوا عنه الماء تحول إلى طوفان.
في هذا الوقت الذي بدا فيه ماء غزة راكداً، والعدو مطمئناً، وداعموه يتأهبون لنشر إنجازات التطبيع؛ كان الأحرار يفورون تحت سطح الماء، ويتدافعون كالموج، ويتجهزون للطوفان، يخرقون باطن الأرض لحفر الأنفاق، يبتكرون وسائل الاتصال، يصنعون أسلحتهم بأيديهم، يخططون لمعركتهم، يستجمعون معلوماتهم، يخترقون خطوط واستخبارات العدو.
كيف فعلوها؟!
كيف حفر هؤلاء أنفاقهم في مساحة صغيرة مكتظة بالسكان، محاصرة من كل الأركان، مكشوفة من السماء بطائرات الاستطلاع؟
كيف أفلتوا من عيون الرقباء والجواسيس، وتكنولوجيا الأقمار الصناعية؟
كيف واجهوا الحَفْر بلا آلات؟
كيف نجحوا في إقامة مدينة كاملة معقدة المداخل والمخارج؟
كيف وفروا داخلها سبل المعيشة والتهوية؟
كيف اخترقوا هذه الأعماق السحيقة؟
كيف يصنعون السلاح؟ ومن أين الآلات، والخامات، والتكنولوجيا، والسواعد، والمعامل، والاختبارات؟
وكيف طوروها لتصل لفاعلية التغلب على أفضل الدبابات؟
كيف يحافظون على استمرار تصنيع الذخائر؟ وكيف يوفرون الإمدادات؟
عدوهم وصلت إليه حتى الآن -بعد نحو شهرين ونصف شهر من الحرب- مئتان وثلاثون طائرة وعشرات السفن من إمدادات الأسلحة والذخائر من أمريكا فقط، وهؤلاء ما زالوا يصنعون أسلحتهم وذخائرهم مع توغل العدو داخل غزة.
كيف يطلقون الصواريخ بعد كل هذا الدمار؟ كيف يطلقونها والعدو يدعي السيطرة على الأرض؟ أين منصات الإطلاق؟ كيف يخفونها من أعين الرقباء؟ كيف اخترقوا بها قبة أعدائهم الحديدية؟ كيف طوروا مداها؟
إنه شيء فوق التصور، يحتاج تصوره إلى: قلب مؤمن، وخيال فنان، ونظرة حالم، وفقه عالِم.. إنه شيء فوق المادة، فوق العادة، فوق المرئي، فوق المحسوس، فوق قدرات البشر، شيء يبلغ ما لم تبلغه الأساطير.
لخبطوا غَزْلَ العالم، جعلوه يضرب أخماساً في أسداس، ظنوا أنها معركة محسومة، هكذا تقول لغة الأرقام وقواعد الجمع والطرح، والعَدَد مقابل العَدَد، والعُدَّة مقابل العُدَّة، فاجأهم الأبطال بلغة جديدة.. لغة خرقت قواعد الجمع والطرح، بل خرقت مفردات الأبجدية، اخترعوا «المسافة صفر»، صفر لخبط جدول الضرب، صفر ضرب أرقام العدو فحولها إلى أصفار!
وضعوا العدو وداعميه في أزمة، العالَم الأمريكي الغربي الذي يزهو بتصدير فوضاه الخلَّاقة إلى بلادنا، خَبَطَتهُ ضربة «طوفان الأقصى» فأفقدته توازنه، باغتته المفاجأة، الضربة حشرت الموس في حلق الكيان وداعميه، يقفون حيارى، إن نزعوا الموس مزقوا حلوقهم، وإن بلعوه تمزقت أحشاؤهم، وإن تركوه اختنقوا واقتربت نهايتهم.
إن وافقوا على وقف إطلاق النار، فقد أعلنوا هزيمتهم، وإن استمروا في القتال استمرت خسائرهم وانكشفت عوراتهم.
فاستنجدوا بالأصدقاء لعرض وساطات الهدنة، لعلها تخفف جراح الموس المحشور في الزور، فجاءهم الرد: «كل أسرى الحرب مقابل كل السجناء في سجون الاحتلال، ولا تفاوض قبل إعلان وقف إطلاق النار».
إنها الحكمة الخالدة: «تحرك، فحين تبدأ الحركة، يظهر لك الطريق»!