عانى رسول الله ﷺ من قريش أشد المعاناة؛ فلم يكن الأمر عندهم مجرد تكذيب للدعوة الجديدة، بل كانت حربًا على كل الأصعدة.
فهناك الحرب الدعوية التي تجلت في تشويه الرسول ﷺ والافتراء عليه وصد الناس عنه، وتعذيب ضعفاء أتباعه.. إلخ.
والحرب الاقتصادية التي تمثلت في الحصار في الشِّعب، وتجويع المسلمين ومناصريهم، وترك التجارة معهم بيعًا وشراء.
والحرب الاجتماعية ظهرت في مقاطعة المسلمين ومناصريهم فلا يَنكحون منهم ولا يُنكحوهم.
والحرب السياسية حيث لم يتركوا المهاجرين إلى الحبشة في حالهم، ويكفي ما بهم من اغتراب عن الأوطان والأهل والأصحاب، فأرسلوا وفودهم للنجاشي لاسترجاع المهاجرين.. إلخ.
كل هذا واجهه الرسول ﷺ، لكن توالت المصائب بفقد زوجته خديجة وعمه أبي طالب؛ فتجرأت قريش وسفهاؤها أكثر من ذي قبل حتى قال ﷺ: «مَا نَالَتْ مِنّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ»(1).
فجاءت الرحلة التي لم تحدث في تاريخ البشر إلا مرة واحدة، رحلة تلاشت فيها حُجُب الزمان والمكان؛ فانعدم الزمن فاجتمعت جماعة من الأنبياء في بيت المقدس فأمهم النبي ﷺ، وانطوى حيز المكان فعبر المصطفى ﷺ الكون بما فيه من أفلاك حتى خرج منه إلى عوالم أخرى.
رحلة جمعت عالم الغيب بالشهادة، وعالم الأجساد بعالم الأرواح، والعالم العلوي بالسفلي، والقديم بالحديث.
رحلة تتلخص في أن النبي ﷺ ﴿رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم: 18).
وقد كانت في وسط الرسالة النبوية تقريبًا؛ فهي بعد مرحلة الاستضعاف، وقبيل الهجرة وتأسيس الدولة، فكأنها واسطة العقد، ومنارة في منتصف الطريق لتهدي السائرين إلى الله تعالى.
وهذه الرحلة زاد للمسلم يستلهم بها من العظات والعبر ما يستعين بها في حياته وسلوكه إلى الله تعالى، فهي في زاوية من زواياها تعتبر تتويجًا لمسار طويل من المقاومة، يمكن للشباب من خلاله استلهام الدروس التي تتثبت بها الأفئدة والأقدام.
1- مقاومة الحزن:
فالمصائب والرزايا لا تنفك عن الإنسان طوال حياته؛ لكن الذي تتكالب عليه الأحزان عليه ألا يوقف حياته، وألا يجعل وجهه متسمرًا تجاه الماضي وآلامه، بل يجعل الآلام خلف ظهره ويستمر في طريقه؛ فالنبي ﷺ فقد زوجته خديجة، لكنه رغم المحبة والألم تزوج بأمنا سودة بنت زمعة، واستمر في دعوته رغم المشاق والعقبات والصدود.
2- مقاومة اليأس والإحباط:
إن كل الظروف المحيطة بالنبي ﷺ وصحبه لم تدفعهم إلى اليأس والإحباط؛ فالحصار والمقاطعة والجحود والمكابرة كانت صخورًا كبيرة، لكنها لم توقف تدفق نهر الدعوة.
والمؤمن الذي يرى بنور الله تعالى يعلم أن العقبات من لوازم الطريق، لكنها عقبات تعلمه الصبر، والثقة في الله، واليقين في موعود الله، والثبات على الحق، وأن العمل لا ينقطع حتى خروج النفس، وتأخر النصر والتمكين لا يعني خطأ الطريق، بل يعني أن الظفر لا يأتي إلا بعد استيفاء أدواته.
3- مقاومة الباطل:
إن مرحلة الاستضعاف التي مر بها النبي ﷺ وصحبه لم تسوغ لهم ألا يقاوموا الباطل بشتى الطرق والوسائل المتاحة.
وإن الباطل ليتغذى على تفرُّق أهل الحق وتشرذمهم، ويطول أجله بضعف أهل الحق.
4- مقاومة فقدان النصير:
قد تعتمد على حليف أو نصير في حياتك، لكن القدر قد لا يبقيه لك؛ لتكون ولايتك لله وحده، ولتعلم أن الباقي والوكيل والنصير الحق هو الله تعالى.
وفقدان النصير قد يكون عونًا على تقوية الشوكة، والاعتماد على الذات.
5- مقاومة الخذلان:
إن طعم الخذلان مُر، ولا سيما إن جاء من الأقربين الذين تتوسم فيهم الخير، وتنتظر منهم النصرة، لكنك طالما على الطريق الحق فالفلاح لك، والخيبة والخسران على الخاذلين.
والأجر عظيم عند الخذلان وقت الحصار والحروب والأزمات؛ فقد جاء في الأثر: «إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»، فَقَالُوا: بَلْ مِنْهُمْ، فَقَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ؛ لأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا، وَهُمْ لا يَجِدُونَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا»(2).
6- مقاومة الإرجاف والاستهزاء:
يأتي على أهل الحق أوقات تقع فيها الفتن؛ فيتأثر ضعاف القلوب، ويميلون للإرجاف، وهنالك تنقلب الموازين؛ فتجد الجهاد إرهابًا، والصدق سذاجة، والكذب ذكاء.. إلخ.
لكن الأثبات من يجعلون هذا الكلام دبر آذانهم؛ فلا يعبؤون به ولا يلتفتون إليه.
نعم قد يحزنهم ويؤثر في نفسياتهم ويبطئ مسيرهم، لكنهم ماضون في طريقهم.
لما أسري بالنبي ﷺ إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس!
قال: أوقال ذلك؟
قالوا: نعم.
قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق.
قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟
قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة(3).
7- مقاومة حب الظهور:
إن الإسراء عمل ليلي لا يطلع عليه الكثيرون، والمعراج لم يشهده أحد من الأساس، ولو جمعنا بينهما وأسقطناه على واقعنا لقلنا: إنه تحرُّك بالجسد وعروج بالقلب والروح.
تحرُّك بالأخذ والأسباب، وعروج بالقلب في مراقي الإيمان والتوكل.
وهذا ما رأيناه في عمل المقاومة؛ حيث الأخذ بالأسباب مع الإيمان بالله وحسن التوكل عليه؛ فحفرت الأنفاق ولم يطَّلع على ذلك أحد، ومات فيها من مات.
وهؤلاء المجاهدون في معركة «طوفان الأقصى» الذين أذاقوا العدو الويلات ولا يعرفهم منا أحد؛ فهؤلاء تعاملوا مع الله، واستعدوا لهذا اليوم، ورضوا بالله قسمة ونصيبًا.
لما أُخبر عمر بقتل النعمان بن مقرن، وقيل: أصيب فلان وفلان وآخرون لا نعرفهم.
قال: ولكن الله يعرفهم.
قال: ورجل شرى نفسه.
فقال رجل من أحمس يقال له: مالك بن عوف: ذاك خالي يا أمير المؤمنين، زعم ناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة.
فقال عمر: كذب أولئك، بل هو من الذين اشتروا الآخرة بالدنيا(4).
ومقاومة الشهوات أمر لا يطلع عليه أحد؛ فلا يخرج الشاب بين الناس ليقول: إني أجاهد نفسي والهوى والشيطان، لكنه عمل قلبي بين العبد وربه.
وتوجهنا بهذه الدروس للشباب ليعرفوا أنهم العماد للأمة، وبهم النهوض من الكبوة، وليعلموا أن الإسراء والمعراج ليست مجرد حادثة عابرة، بل هي روح سارية حتى قيام الساعة تبعث الأمل، وتؤكد معية الله لعباده المؤمنين.
____________________
(1) سيرة ابن هشام (1/ 416).
(2) أحكام القرآن لابن عربي (2/ 228).
(3) أخرجه الحاكم في «المستدرك»، ح(4407)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى»، (9/ 46) عن حصين بن عوف.