كنت يومئذ صغيراً لا أفقه شيئاً مما كان يجري في الخفاء، ولكني كنت أجد أبي رحمه الله يضطرب ويصفرّ لونه كلما عدت من المدرسة، فتلوتُ عليه ما حفظت من «الكتاب المقدس»، وأخبرته بما تعلمت من اللغة الإسبانية، ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار، التي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها، فيلبث فيها ساعات طويلة، لا أدري ما يصنع فيها، ثم يخرج منها محمر العينين كأنه بكى بكاء طويلاً، ويبقى أياماً ينظر إليَّ بلهفة وحزن، ويحرك شفتيه فعل من يهم بالكلام، فإذا وقفت مصغياً إليه ولَّاني ظهره وانصرف عني من غير أن يقول شيئاً.
وكنت أرى والديّ يبتعدان عني ويتكلمان همساً بلغة غير اللغة الإسبانية لا أعرفها ولا أفهمها، فإذا دنوت منهما قطعا الحديث وحوّلاه، وأخذا يتكلمان بالإسبانية، فأعجب وأتألم، وأذهب أظن في نفسي الظنون، حتى إني لأحسب أني لست ابنهما وأني لقيط جاءا به من الطريق، فيبرح بي الألم، فآوي إلى ركن في الدار منعزل، فأبكي بكاء مراً.
وولدت أمي مرة، فلما بشرت أبي بأنها قد جاءت بصبي جميل لم يبتهج، ولم تَلُحْ على شفتيه ابتسامة، ولكنه قام يجر رجله حزيناً ملتاعاً، فذهب إلى الخوري فدعاه ليعمّد الطفل، وأقبل يمشي وراءه وهو مطرقٌ برأسه إلى الأرض، وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي.. فرأيت وجهها يشحب شحوباً هائلاً وعينيها تشخصان، ورأيتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة.. ثم تغمض عينيها، فحرت في تعليل هذه المظاهر، وازددت ألماً على ألمي.
حتى إذا كان ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في العطر والنور، والحمراء تتلألأ بالمشاعل والأضواء، والصلبان تومض على شرفاتها ومآذنها، دعاني أبي في جوف الليل وأهل الدار كلهم نيام، فقادني صامتاً إلى غرفته، إلى حرمه المقدس.
فخفق قلبي خفوقاً شديداً واضطربت، لكني تماسكت وتجلدت، فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب، ثم أخذ أبي يدي بيديه بحنو وعطف وقال لي بصوت خافت: يا بني، إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلاً، وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك، فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين؟ إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرّض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال «ديوان التفتيش».
فلما سمعت اسم «ديوان التفتيش» ارتجفت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي، وقد كنت صغيراً حقاً، ولكني أعرف ما هو «ديوان التفتيش» وأرى ضحاياه كل يوم؛ فمن رجال يُصلبون أو يُحرقون، ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتن أو تبقر بطونهن.. فسكتُّ ولم أُجِبْ.
فقال لي أبي: ما لك لا تجيب؟! أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك؟
قلت: نعم.
قال: تكتمه حتى عن أمك وأقرب الناس إليك؟
قلت: نعم.
قال: اقترب مني، أَرهِفْ سمعك جيداً فإني لا أقدر أن أرفع صوتي؛ أخشى أن تكون للحيطان آذان تسمعني فتشي بي إلى «ديوان التفتيش»؛ فيحرقني حياً.
فاقتربت منه وقلت له: إني مُصغٍ يا أبت.
فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف وقال: أتعرف هذا الكتاب يا بني؟
قلت: لا.
قال: هذا كتاب الله.
قلت: الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع ابن الله.
فاضطرب وقال: كلا؛ هذا هو القرآن الذي أنزله الله، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، على أفضل مخلوقاته وسيد أنبيائه، سيدنا محمد بن عبدالله، النبي العربي، صلى الله عليه وسلم.
ففتحت عيني من الدهشة، ولم أكد أفهم شيئاً!
قال: هذا كتاب الإسلام، الإسلام الذي بعث الله به محمداً إلى الناس كافة، فظهر هناك.. وراء البحار والبوادي.. في الصحراء البعيدة القاحلة.. في مكة، في قوم بداة مختلفين، مشركين جاهلين، فهداهم به إلى التوحيد، وأعطاهم به الاتحاد والقوة، والعلم والحضارة، فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة، إلى إسبانيا، وكان ملكها جباراً عاتياً وحكومتها ظالمة غاشمة وشعبها مظلوماً فقيراً جاهلاً متأخراً، فقتلوا الملك الجبار، وأزالوا الحكومة الظالمة، وملكوا الأمر في إسبانيا، فعدلوا بين الناس وأحسنوا إليهم، وأمّنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيها ثمانمائة سنة، جعلوها فيها أرقى وأجمل بلاد الدنيا، نعم يا بني، نحن العرب المسلمين.
فلم أملك لساني من الدهشة والعجب والخوف! وصحت به: ماذا؟! نحن؟.. العرب المسلمين!
صرت من بعد كلما رأيت شرف الحمراء أو مآذن غرناطة تعروني هزة عنيفة، وأحس بالشوق والحزن والبغض والحب يغمر فؤادي، وكثيراً ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة، فإذا تنبهت رأيتني أطوف بالحمراء وأخاطبها وأعاتبها، وأقول لها: أيتها الحمراء.. أيتها الحبيبة الهاجرة! أنسيت بُناتك وأصحابك الذين غذوك بأرواحهم ومهجهم، وسقوك دماءهم ودموعهم، فتجاهلت عهدهم وأنكرت ودهم؟! أنسيت الملوك الصيد الذين كانوا يجولون في أبهائك، ويتكئون على أساطينك، ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال والأبهة والجمال؟ أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا، وإن أمروا لبى الدهر، أألِفتِ النواقيس بعد الأذان؟ أرضيت بعد الأئمة بالرهبان؟!
ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان فأسرع الكرة إلى الدار لأحفظ درس العربية الذي كان يلقيه عليَّ أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي، فيكتب لي حذاءه الحرف العربي ويقول لي: هذه حروفنا، ويعلمني النطق بها ورسمها، ثم يلقي عليَّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه نُصلي خفية.
حتى أتقنت العربية، وفهمت القرآن، وعرفت قواعد الدين، فعرّفني بأخ له في الله، فكنا نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا.
واشتدت بعد ذلك قسوة «ديوان التفتيش» وزاد في تنكيله بالبقية الباقية من العرب، واستمر ذلك مدة طويلة، فقال لي أبي ذات يوم: إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا، وإني لأهوى الشهادة على أيدي هؤلاء، لعل الله يرزقني الجنة فأفوز بها فوزاً عظيماً، ولم يبق لي مأرب في الدنيا بعد أن أخرجتك من ظلمة الكفر وحملتك الأمانة الكبرى التي كدت أهوي تحت أثقالها، فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء.
ومرّت على ذلك أيام، وكانت ليلة سوداء من ليالي السّرار، وإذا بعمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه، فقد يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب بلد المسلمين، فأقول له: أبي وأمي؟
فيعنف عليّ ويشدُّني من يدي ويقول لي: ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟
فأمضي معه صاغراً كارهاً، حتى إذا ابتعدنا عن المدينة وشملنا الظلام قال لي: اصبر يا بني؛ فقد كتب الله لوالديك المؤمنَين السعادة على يد «ديوان التفتيش».
ويخلص الغلام إلى بر المغرب ويكون منه العالم المصنف سيدي محمد بن عبدالرفيع الأندلسي، وينفع الله به وبتصانيفه.
________________________
المصدر: كتاب «قصص من التاريخ».