رَوى ابن خلدون أن الخليفة أبو جعفر المنصور قال للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: إني أرى أن الدولة الإسلامية قد اتسعت، وأقاليمها قد زادت، وإن الناس قد اختلفوا في الأحكام الإسلامية، وأنا لا أعرف أحداً أعلم بدين الله منك؛ فضع لنا كتابًا جامعًا لأحكام الإسلام وتطبيقاتها، مع مراعاة اليسر والسهولة، والتركيز على ما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستجاب الإمام مالك لهذا الطلب، وبدأ تصنيف كتابه «المُوَطَّأ»، ثم عرضه على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة فوافقوا عليه.
وقد حرص الإمام مالك في هذا الكتاب أن يجمع بين الصناعة الحديثية والفقهية، في أبواب العبادات والمعاملات والجنايات، وغيرها، لتكون بوابة حقيقية لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية.
وقد لَقِي هذا الكتاب قبولاً بين المسلمين، حتى لا يكاد يخلو منه بيت أو مسجد، بل إن القانون الكويتي قد اعتمد على آراء الإمام مالك في التأصيل لأبوابه المتنوعة.
والحقيقة أن الاعتماد القانوني على الشريعة الإسلامية له فوائد متعددة، منها:
أولاً: ضمان الصدق والنزاهة في مواد القانون، حيث إن القانون يعتمد على الشريعة الإسلامية، والشريعة تستمد أحكامها من القرآن والسُّنة واجتهادات الصحابة والفقهاء، مما يجعلها تتميز عن غيرها من القوانين التي تعتمد على رؤية بعض الناس الذين لا يؤمنون بإله، ولا تحكمهم إلا مصالحهم أو رؤيتهم الخاصة، فالاعتماد على الشريعة الإسلامية في مواد القانون يوفر الصدق والطمأنينة والأمن واليقين في سلامة الأحكام.
ثانياً: تحقيق العدالة الاجتماعية، فالقانون المعتمد على الأحكام الشرعية يتميز بقدرته على حفظ الحقوق لأصحابها، لأن هذه الأحكام ليست موضوعة لمصلحة شخص دون غيره أو حزب أو فئة معينة على حساب الآخرين، وإنما هي أحكام مستمدة من شرع رب العالمين، الذي يأمر بالعدل ويحكم به، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90)، وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: 58).
ثالثاً: القدرة على استيعاب الوقائع والأحداث التي تقع وتستجد في المجتمع دون أن يكون لها نص في القانون، وقد برع المشرع الكويتي حين نص في القانون المدني على أنه إذا لم يوجد نص تشريعي، حكم القاضي وفقًا لأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقًا مع واقع البلاد ومصالحها.
رابعاً: حفظ الهوية الإسلامية للمجتمع؛ لأن الاستناد إلى الشريعة الإسلامية في القانون يحمي المجتمع من الاعتماد على القوانين الغربية التي لا تتناسب مع الدين الإسلامي ومبادئه، وبالتالي إذا طبقنا هذه القوانين الغربية فإنها تؤدي إلى سلخ المجتمع المسلم من هويته، وتجعله يتأثر بالثقافة الغربية الفاسدة.
خامساً: تحقيق العبادة وتحصيل الأجر والثواب من خلال تطبيق القانون واعتماده كمصدر لتسيير حياة الناس، فإذا علم الإنسان أن ما يفعله ويطبقه من مواد القانون إنما هو مستند إلى ما شرعه الله تعالى ورسوله، فإنه يستشعر أنه يطيع الله ورسوله، وهو ما يسهم في بلوغ العبد كمال الإيمان، وهذا لا يكون إلا بالتسليم لحكم الله ورسوله في كل شيء، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65).
سادساً: الجمع في تنفيذ الأحكام الشرعية بين الضمير المستند إلى مراقبة الله وقوة القانون المستندة إلى السلطة التنفيذية، وهذا الجمع بينهما يؤدي إلى تحصيل الفوائد الخاصة بكل منهما.
فالاستناد إلى الضمير الحي النابع من المراقبة لله تعالى يجعل الإنسان لا يقترب من مواضع الشبهات، عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ..».
كما يؤدي الاعتماد على الشريعة الإسلامية التي تربي الضمير الحي إلى عدم أخذ الإنسان ما ليس من حقه، حتى وإن استطاع أن يتحايل على القانون، فالاعتماد على الشريعة الإسلامية يؤدي إلى إيقاظ الضمير الذي يبتعد عن المحرمات والشبهات ولا يأخذ ما ليس من حقه.
ففي صحيح البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَمِعَ جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: «إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا».
أما فوائد القانون المستند إلى السلطة التنفيذية فإنه يوفر القوة التي تعيد لكل مظلوم حقه، وتُوقِف الظالم عند حده، وفي هذا يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إِن الله لَيَزَعُ بالسلطان مَالا يَزع بِالْقُرْآنِ»؛ يعني أن الله جعل قوة السلطان أو الحاكم مُرعبة للظالمين أكثر من خوفهم من القرآن، فما أجمل أن تكون قوة السلطان عاملة في تنفيذ أحكام القرآن.
وهذه بعض الأمثلة التي تبين جمال الارتباط بين الشريعة القانون:
الأول: هناك الكثير من قضايا الزواج، لو تركها القانون لتكون تابعة لأهواء الناس أو للقوانين الغربية لأدى ذلك إلى وقوع مشكلات اجتماعية كثيرة.
مثل: زواج المسلمة بغير المسلم، فقد حرم الإسلام ذلك، واشترط القانون مبدأ الكفاءة في الدين، مما وفّر للمرأة المسلمة حقوقها الكاملة في حرية العبادة والالتجاء إلى أحكام الإسلام عند وقوع الضرر عليها.
الثاني: في تشريع وتقسيم المواريث، فإن القانون المستمد من الشريعة الإسلامية قد استطاع أن يحسم هذه المسائل، ولا يتركها لأهواء الناس أو مطامعهم، بل إنه تفادى الكثير من القوانين التي تحرم المرأة من الميراث أو تظلم أحداً على حساب غيره.
إن القوانين المستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية قد استطاعت بفضل الله تعالى أن ترسي دعائم الحق والعدل، وتحقق الأمن والاستقرار والسلام بين الناس، فما أحوجنا إلى التمسك بها ودعوة الناس إليها!