تفاوت همم الناس في استعدادهم لاستقبال رمضان بتفاوت نظرتهم إلى رمضان، فمن الناس من يرى أنه موسم للزيارات واللقاءات، فيستعد له بألوان الأطعمة وصنوف المشروبات، ومنهم من يراه موسماً للعتق وسباقاً إلى الجنات، فيهيئ قلبه ووقته ونفسه للطاعات والعبادات.
وشتان بين من انشغل بملء بطنه، ومن انشغل بإصلاح قلبه، والحق أن من أراد الفوز برمضان فلينشغل بذكر ربه، وإصلاح قلبه، وليجعل همه الآخرة، وليعد العدة، وليأخذ الأهبة وليفرغ نفسه في رمضان لطاعة الرحمن وتأمل قول تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ (التوبة: 46)، فهؤلاء لما لم يهيئوا أنفسهم ولم يعدوا العدة للخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد علم أنهم غير صادقين، فعاقبهم الله بالتثبيط والخذلان، فاحذر أن يأتي واجب الوقت وأنت غير مستعد له ومتهيئ لفعله فتعاقب.
قال ابن القيم: حذارِ حذارِ من أمرين لهما عواقب سوء؛ أحدهما: التهاون بالأمر إذا حضر وقته، فإنك إن تهاونت به ثبَّطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك، قال تعالى: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ (التوبة: 83)، فمن أراد العتق من النيران، وأراد التوفيق للعبادة، فليعد العدة وليجهز نفسه لدخول السباق.
1- وإن أول ما يستقبل به موسم رمضان هو التوبة الصادقة الشاملة؛ وهي وظيفة العمر، تلزم العبد في كل وقت وكل حال، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة، وكان يسمع منه في المجلس الواحد: «رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم» (صحيح الجامع).
فالتوبة منزلة جليلة ينبغي أن تتزود منها القلوب قبل انطلاق موسم السباق، لأنها تصفي القلب من أدران الذنوب وقيود المعاصي التي طوقته طيلة الأيام الماضية، فيصبح القلب متحرراً نشيطًا مقبلاً على ربه، وتصبح الأعضاء والجوارح كلها وتمسي في خدمة الرب سبحانه دون كلل أو ملل.
فمن دخل السباق دون توبة صادقة، فليعلم أنه خاسر جولته لا محالة، إذ كيف يدخل السباق من قيدت أقدامه، وغلت جوارحه.
روي أن رَجُلاً جاء إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ حُرِمْتُ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ! فَقَالَ له علي: «أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ قَيَّدَتْكَ ذُنُوبُكَ».
والتوبة الرمضانية ليست قاصرة على هجر الذنوب كبيرها وصغيرها فحسب، إذ إن التوبة لها أبعاد تشمل كل جوانب الحياة، فنحن بحاجة إلى توبة من نمط التفكير الذي تعودنا عليه، وتوبة من روتين الحياة القاتل، توبة من الآمال والأماني الزائفة التي تعلقت قلوبنا بها.
2- توبة من إضاعة الوقت: فالوقت هو رأسمال الإنسان الحقيقي، لكن كثيراً من الناس قد جهلوا قيمته فصاروا يفرطون في جواهره وكنوزه دون الشعور بحجم الخسارة التي حلت بهم.
فالليل كنز من كنوز الوقت، وهو جزء منه وقد فرط كثير من الناس في جواهره وفصوصه، إذ تحول الليل عندهم إلى بيئة للهو واللعب والسهر والغفلة، والمزاح والضحك، وقد ضيعوا بذلك فرَصَهُ الذهبية، وفتوحاتِه الربانية.
ولو تأملنا آيات الكتاب العزيز لوجدنا أن لليل ثلاث وظائف مهمة:
– فرصة للراحة والخلوة والانقطاع عن الناس قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) (الفرقان: 47).
– واحة المتقين المستغفرين، قال تعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ {17} وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات).
– وعندما وصف عباد الرحمن قال عن ليلهم: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (الفرقان: 64)، فهذه وظائف الليل عند الفطناء الذين فهموا طبيعة هذه الحياة الزائلة.
الفراغ كنز من كنوز الوقت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ، والفراغُ» (رواه البخاري)، لكن الناس لا يشعرون بقيمة هذا الكنز وأهمية هذه النعمة، فينفقونها فيما لا فائدة منه، يضيع الوقت في الشرود الذهني والتفكير في اللاشيء، وفي الصمت المطبق أو مع الهواتف النقالة، أو في الانتقال من ديوانية لأخرى دون فائدة أو جدوى، فقط لشحن وقت الفراغ الذي يشعر به، وما علم أن هذا الفراغ نعمة من الله عظيمة سيسأل عنها يوم القيامة أمام الله تعالى، فقد روى الترمذي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ» (صححه الألباني).
فإذا لم يستثمر العبد وقته فيما ينفعه من الطاعة والذكر ومعرفة الله تعالى، في رمضان خاصة وفي كل العمر عامة فهو المغبون الذي أطبقت الغفلة على قلبه.
توبة من النوم الطويل، فإن من العجب أن ترى من الناس من يقضي نهار رمضان كله نائمًا، من الفجر إلى قبيل المغرب، هرباً من الجوع والعطش، وقد تأول قول معاذ: «أحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي»، وهذه شبهة تناقلها الشباب بينهم وقد أساؤوا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً.
والصحيح أن معاذاً كان قد سأله أبو موسى الأشعري كيف تقرأ القرآن؟ فقال معاذ: «أمَّا أنَا فأنَامُ وأَقُومُ، فأحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي»؛ أي أُجزِّئُ اللَّيلَ أجْزاءً؛ جُزْءًا للنَّومِ، وجُزْءًا للقِراءةِ والقيامِ، فأقْرأُ ما كتَبَ اللهُ لي، فأحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتي؛ أي: أطلُبُ الثَّوابَ في الرَّاحةِ كما أطْلُبُه في التَّعَبِ؛ لأنَّ الرَّاحةَ إذا قُصِدَ بها الإعانةُ على العِبادةِ، حصَلَ بها الثَّوابُ، وشتان من نام ليستعين على الطاعة، ومن نام هربًا من الطاعة.
روى الطبراني في الأوسط بسند حسنه الألباني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما رأيتُ مثلَ الجنةِ نام طالبُها ولا مثلَ النارِ نام هاربُها»، فطلاب الجنان يتميزون باليقظة والانتباه، والبعد عن الغفلة والحرص على طاعة الرحمن، ورمضان بالنسبة لهم واحة للطاعات يتمتعون بالسير في جنباتها، ولا ينامون إلا بالقدر الذي يقوم أجسادهم ويصحح أبدانهم ويعينهم على القيام بمهام العبادات.
3- توبة من اللسان: اللسان عضو صغير حجمه عظيم جرمه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خطورته في نصيحته لحبيبه معاذ فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرُكَ بِرَأسِ الأَمرِ كلِّهِ وعمودِهِ، وذِروةِ سَنامِهِ؟» قلتُ: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: «رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ»، ثمَّ قالَ: «ألا أخبرُكَ بملاكِ ذلِكَ كلِّهِ؟»، قُلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، قال: فأخذَ بلِسانِهِ قالَ: «كُفَّ عليكَ هذا»، فقُلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقالَ: «ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم».
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «وأعوذ بك من شر لساني»، فلو ترك العنان للسان لضيع مستقبل الإنسان، فليس هناك شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان، حتى يبتعد عن النميمة والغيبة والقيل والقال، والرياء والعجب، والاحتقار والغرور إلى آخر هذه الأعمال التي تهلك العبد وتضيع عليه آخرته.
وإن من توبة اللسان أن يبتعد العبد عن كثرة الاتصالات غير المهمة والضرورية، وأن يبتعد عن كثرة الكلام في التحليلات السياسية والحربية والتجارية والكروية والفنية والمجاملات الزائفة، والتهريج والمزاح والفحش والبذاء، فالكلام في مثل هذه الأمور بمثابة دخان يسود القلب ويمرضه.
4- توبة من كثرة العلاقات: ففي رمضان ينبغي أن تكون علاقتنا بالمصحف والمسجد والمسبحة أكثر وأقوى من أي علاقة أخرى، وإن الإكثار في رمضان من الزيارات والمقابلات والمحادثات واللقاءات حتماً سيضيع على العبد غنائم باردة وفرصًا لا تعوض، وإن المتأمل لحال السلف يرى أنهم كانوا يتقللون من علاقاتهم بغيرهم من البشر ليتفرغوا للمصحف.
فقد كان الإمام مالك إذا أقبل عليه رمضان هجر جميع المجالس حتى مجالس الحديث؛ ليعكف على كتاب الله.
وكان الإمام الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين ختمة لا يحسب منها ما يقرأ في الصلاة.
وكان الإمام أحمد إذا أقبل رمضان جلس في بيت الله واعتكف على قراءة القرآن وترك فتاواه ومسائله ومجالس العلم ليعكف على كتاب الله، يقول الإمام الزهري: شهر رمضان شهر قرآن وإطعام طعام لا ثالث.
فمن أراد الفوز في رمضان، فليعد العدة وليشمر عن ساعد الجد، وليبدأ السباق بصدق وإخلاص، وليعلن التوبة الشاملة عن كل ما يقطع عليه طريقه إلى الله تعالى، وليجعل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلفهم نبراسًا يهتدي به في هذا الطريق حتى يحلق بهم في جنات النعيم.