يتحدث كثيرٌ من العلماء والأطباء عن أنواع متعددة من المتلازمات سواء منها ذات الصبغة البيولوجية أو النفسية، لكنني لم أجد من بينهم مَن تحدث عن متلازمة عزّة النفس أو الشعور الفياض بالشموخ وإعزاز الذات.
وقد تأملت سيرة الأديب الشهيد سيد قطب رحمه الله، سواء من خلال آثاره النثرية أو الشعرية، أو من خلال ما كُتب عنه من كتب ودراسات، وما قيل فيه من شهادات، فلفت انتباهي في هذه السيرة معالم وسمات كثيرة، يأتي في مقدمتها -في تقديري- شعوره القوي بكرامته وعزة نفسه، وهو لا يتوقف بهذه الخاصية عند حدود المشاعر والأحاسيس التي تنتاب معظم بني الإنسان، بل هي عنده حياة ومواقف لا تقبل المساومة، لأنها منبثقة عن عقيدة لا يمكن تجاوزها أو التهوين من آثارها.
أجل إن عزة النفس في منظور سيد قطب الفكري صنو العقيدة ذاتها، أو هي الوجه الثاني لهذه العقيدة، وبناءً على ذلك، فهي ليست تكبراً أو غروراً أو استعلاءً مظهرياً لا معنى له، كلا، إنما حقيقة نابعة من روح المسلم ومن أعماق عقيدته، بل هي ترجمة حقيقية لتلك العقيدة في واقع الناس على النحو الذي نقرؤه في قول الله عز وجلّ: ﴿وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلْمُنَٰافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: 8).
وعندما عَرَضَ سيد قطب إلى تفسير قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ (فاطر: 10) طرّسَ بقلمه الفذ هذه الكلمات التي تطفح بروح العزّة الإيمانية: العزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب، قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس.. حقيقة يستعلي بها المرء على نفسه أوّل ما يستعلي.. يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة، ومخاوفه ومطامعه من الناس.. ومتى استعلى عليها، فلن يملك أحدٌ وسيلة لإذلاله وإخضاعه، فإنما تُذلُّ الناسَ رغباتُهم وشهواتُهم.. ومخاوفُهم ومطامُعهم.. أما مَن استعلى عليها فقد استعلى على كلّ وضع وعلى كلّ شيء، إنما العزة استعلاءٌ على شهوة النفس، واستعلاءٌ على القيد والذل، واستعلاءٌ على الخضوع الخانع لغير الله.. ثم هي (أي العزة) خضوعٌ لله وخشوع، وخشية لله وتقوى، ومراقبة لله في السراء والضراء، ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه.
حادثة أذهلت أحمد عبدالغفور عطار
ومن المواقف التي عرَضت لسيد قطب في حياته، وواجَهَها بهذه الروح التي تترجم عزة المؤمن واستعلائه على المغريات، ما رواه الأديب السعودي المرموق أحمد عبدالغفور عطار، مؤسس صحيفة عكاظ، عندما كان في مصر في مرحلة من مراحل حياته، حيث قال: اتصل بي سيد قطب تلفونياً ذات يوم وطلب مني أن آتي إلى منزله سريعاً، وطلب مني باستحياء أن أُحْضِرَ معي بضعة عشراً جنيهاً قرضاً، ليشتري بها دواءً، وهو يومئذ مريض، ولا يملك ثمن الدواء.
فذهبتُ إلى المنزل سريعاً ومعي المبلغ المطلوب، ولما دخلتُ غرفة الاستقبال، رأيتُ مشهداً عجيباً، وأُقسم لقد دُهشتُ مما رأيتُ، كان يجلس في الغرفة موظف دبلوماسي من سفارة دولة عربية بترولية، وأمامه حقيبة مليئة بالأوراق النقدية من مختلف الأرقام والفئات، تبلغ في مجموعها عدة آلاف من الجنيهات، وهو يرجو سيد قطب بإلحاح ورجاء وحرارة أن يأخذ الحقيبة بما فيها من أموال، فهي هدية من دولته له؛ لأنها تعرف منزلته وتقدّر مسؤولياته، وتريد منه أن يستعين بها على أعباء حياته وتمويل مشروعاته الأدبية والفكرية.
وكان سيد قطب وقتها بصدد إصدار مجلة أدبية إصلاحية فكرية هي مجلة «الفكر الجديد»(1)، فنظرتُ إلى سيد قطب الذي كان جالساً مريضاً، فإذا به حزين، ثم ردّ هدية الرجل بحزم وأدب، ثم بدا عليه الغضب والحدّة وهو يخاطبه قائلاً: إنني لا أبيع نفسي وفكري بأموال الدنيا فأَعِدْ أموالك إلى حقيبتك مشكوراً.
ثم التفتَ إليَّ وقال: هل أحضرتَ ما طلبتُه منكَ؟ فقلتُ: نعم، وناولته المبلغ وأنا في غاية الدهشة والاستغراب والانفعال!
ولما عرف هذا الدبلوماسي قصة هذا المبلغ، وأن سيد قطب يومئذ لا يملك ثمن الدواء، ومع ذلك استعلى على آلاف الجنيهات، ورفضها وردّها مع حاجته الماسة إلى بعضها؛ خرج محتاراً متعجباً!
ثم أردف أحمد عبدالغفور عطار قائلاً: هذه الحادثة أثبتها وأسوقها دون تعليق، وأقدمها هدية لمن يتناولون حياة سيد قطب وفكره وآراءه ومواقفه بالتخطئة والنقد والاتهام، وهم يعيشون في ترف ظاهر ويلهثون وراء المال، ويرتبطون الارتباطات المشبوهة، ويتصلون الاتصالات المريبة، ويمدّون أيديهم هنا وهناك، وإني لأقول لهم: قليلاً يا هؤلاء، رحم الله امرأً عرف قدر نفسه فوقف عندها، فأين أنتم من هذا الرجل الزاهد المتجرد الشهيد بإذن الله؟
العزة نحيزة متأصلة في روحه وفكره
ولعلّ قائلاً يقول: إن نزوع الاستعلاء عند سيد قطب هيمن على روحه وفكره وشخصيته، خلال المرحلة الأخيرة من حياته، أي إبان تمحضه للدعوة وإقباله على تفسير كتاب الله تعالى الذي صدر في 6 مجلدات كبيرة تحت عنوان «في ظلال القرآن»، وأسارع إلى أنّ هذا القول مجرد وهم أو افتراض في غير محله، إذ إننا نجد الشعور بالعزة من أقوى خصائص أدبه وهو في مرحلة الشباب، بل هو نحيزة أي فطرة سارية في كينونته.
يقول مثلاً في قصيدة له نُشرت في صحيفة البلاغ الأسبوعي خلال مارس 1929م بعنوان «عزلة في ثورة»، وعمره يومئذ لم يتجاوز 23 عاماً:
أتُرى أحيا بروحٍ لا تَحِسُّ ** وفؤادٍ ليس يدري ما الشعورْ؟
أكتمُ الأنفاسَ إنْ جالتْ بحسٍّ ** ثم أبقى صخرةً بين الصخورْ؟
إن نفسي ليس ترضى: أيُّ نفسٍ ** تقبلُ العيشَ كسكّانِ القُبُورْ؟
ويقول في قصيدة عنوانها «اضطراب حانق» نُشرت في صحيفة «البلاغ الأسبوعي» خلال أبريل 1929م:
إنهم لم يَعرِفوا معنى الجمال ** إنهم قد جَهِلوا سرَّ الوجودْ
وإذا طالَعَهم طيفُ الكمال ** لائحاً يهفو، تولوا في جُمودْ
فسيد قطب هنا ينعى على تيار من الناس، يعيش حياة الأنعام، من أكل وشرب وتكاثر، بينما مقتضى الكمال يدعوه إلى العيش للمبادئ والأهداف العظمى في الوجود.
ويقول في قصيدة عنوانها «أخي» نشرتها صحيفة «الكفاح الإسلامي» الأردنية بتاريخ 26 يوليو 1957م :
فلسنا بطيرِ مهيضَ الجناح ** فلن نُستذلَّ ولن نُستباحْ
وإني لأسمعُ صوتَ الدماء ** قوياً يُنادي الكِفاحَ الكِفاحْ
سأثأرُ لكنْ لربٍّ ودينٍ ** وأَمضي على سنتي في يقينْ
فإما إلى النصر فوق الأنام ** وإما إلى الله في الخالدينْ
هكذا كان سيد قطب، وبهذه الروح عاش معتزاً شامخاً بعقيدته وإيمانه وأفكاره، إلى أن لقي ربه شهيداً في ميدان الشرف والنضال ومقارعة الظالمين.
_______________________
(1) مجلة «الفكر الجديد»، أصدرها محمد حلمي المنياوي، وأشرف عليها سيد قطب، والشيخ محمد الغزالي.