شكلت الاعتصامات الطلابية في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، والغرب بشكل عام، ظاهرة جديدة في التضامن مع فلسطين، وانضمام شريحة جديدة للتفاعل مع قضية فلسطين، ورفض العدوان المستمر على القطاع.
وفي سياق الحديث عن الشباب وأدوارهم المختلفة، من الجدير أن نسلط الضوء على تعلق الشباب بالقضية الفلسطينية، وعملهم لها، وهو تعلق قد تصاعد منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى».
وفي سياق الحديث عن هذه الفئة المركزية، نحاول في هذا المقال أن نقدم إضاءات حول تعلق الشباب بالمقدسات، وفي القلب منها المسجد الأقصى المبارك، لما يتعرض له من مخططات صهيونيّة تستهدف هويته، وتحاول أن تمكن للمستوطنين فيه، في سياق الإحلال الديني، لكي نصنع جيلًا شابًا يتعلق بهذا المسجد، ويعمل لهذه القضية، فيتحول الهمّ إلى همة، ويسخر الغضب والحزن والتضامن إلى طاقة هادرة تشتبك مع الاحتلال في كل مكان ومجال، وتشارك في معركة التحرير التي خطت أول فصولها المقاومة المباركة.
المعرفة أساس وانطلاقة
لا يمكن الحديث عن حب المقدسات والتعلق بها من دون التأكيد على أهمية معرفة هذه المقدسات وقيمتها، وموقعها في عقيدة الأمة وميراثها الديني والفكري والسياسي، وهي خطوة بالغة الأهمية، فمن دونها سيظل التعلق بها منحصرًا بأهميتها الدينية، أو بموقعها وجدانيًا، أو بأنها أرضٌ مسلوبة مستعمرة، وهي قضايا على الرغم من أهميتها منفردة، فإنها تشكل جزءًا من الصورة، فلا تكتمل إلا باستحضار أجزائها جميعًا، ابتداءً من العقيدة وما وضعه الله تعالى في هذه البلاد من بركة، وأنها محضن عدد كبير من الأنبياء، ومن ثم أنها أرض المحشر والمنشر، وفيها تسلم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مقاليد قيادة البشرية، ومن مسجدها عُرج به إلى السماوات، وصولًا إلى ذلك السفر العظيم والنصوص الريانة من ميراث التشوق النبوي إلى القدس والأقصى.
وما حفلت به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من فضائل للمسجد الأقصى، وحض الصحابة على السكنى بالقدس، والإهداء إلى مسجدها، ومن ثم اهتمام الصحابة الكرام بالمسجد، فكانت المدينة الوحيدة التي تسلم مفاتيحها أحد الخلفاء الراشدين، لعظيم شأنها وفرادة مكانتها.
أما على الصعيد الفكري والسياسي، فمن الأهمية بمكان أن نسلط الضوء على أن القدس واحدةٌ من أبرز معايير صحة الأمة وسقمها، والاستشهاد بما مر على المدينة من حقب تاريخية كانت فيها أسيرة محتلة، بالتوازي مع تراجع الأمة وتشرذمها، وفي المقابل، فقد عاشت القدس أزهى عصورها في ظل الدولة الإسلامية القوية التي تدافع عنها، وما يتصل بتلك المحطات التاريخيّة، من قراءة متأنية للتاريخ منذ فتح القدس وحتى يومنا الحاضر، وما مرّ على هذه المقدسات من أخطار واعتداءات، وإحلال لتلك الشرذمة من الصهاينة.
وبطبيعة الحال، وأمام تطور المنصات التي تجذب الشباب، يجب أن نوصل هذه الجرعات للشباب، من خلال جملة من الطرق والأساليب، إنْ عبر المحاضرات المختلفة من قبل المتخصصين، أو اللقاءات العامة، أو الكتب ذات الصلة، والأفلام الوثائقية، وغيرها، وربما يكون التحدي الأكبر نقل هذه المفاهيم إلى الفئات العمرية الأصغر سنًا، من خلال الروايات الرصينة الهادفة، والقصص المصورة، والرسوم المتحركة للفتيان، والتطبيقات على الأجهزة الإلكترونية، وهي منتجات بالغة الأهمية تواكب العصر، وتستخدم تقنياته في سبيل خدمة واحدة من أبرز قضايا الأمة.
«الطوفان» من «الأقصى» وإليه
شكلت «طوفان الأقصى» استعادة للتضامن مع فلسطين والتفاعل معها، وهو مسار لم ينحصر في بيئة بعينها، بل امتد إلى كل قُطرٍ ومكان، ووصلت أمواج الطوفان المباركة إلى الغرب، وإلى الشباب المثقف فيها، ولأن هذه المعركة قد انطلقت دفاعًا عن «الأقصى»، يجب أن نعزز ارتباط الشباب بالمسجد المبارك، ونرفع سوية الوعي بما يتعرض له «الأقصى»، فلا يُمكن أن تذهب التضحيات المهولة التي قدمها أهلنا في قطاع غزة أدراج الرياح، من دون أن يكون التعلق بهذا المسجد، ومعرفة ما يتعرض له، ومن ثمّ العمل للدفاع عنه في وجه كل المخططات والاعتداءات، ركيزة أساسية للشباب، ولمن يستطيع أن يؤثر فيهم.
ولكي نحقق هذا التراكم يمكن العمل على عدة مسارات بعضها متتالٍ، وبعضها الآخر متوازٍ، مع استخدام ما أسلفنا ذكره من أدوات وتقنيات، لتحقيق الأهداف المرجوة، ويمكن أن نقسم المسارات إلى ما يأتي:
الأول: بيان موقع المسجد الأقصى وأهميته في ديننا الحنيف، فهو ثالث المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أمّ بالأنبياء، واستلم لواء الحضارة البشرية، إضافةً ما له في الصلاة في جنباته من فضلٍ، وشد الرحال إليه، والسكن حوله، والدفاع عنه، وغير ذلك مما حوته كتب الحديث والفضائل من أحداث آخر الزمان، وتعلقها المباشر بصراعنا مع المحتلّ في تلك البقاع المباركة.
الثاني: التعريف بالمسجد الأقصى وبيان مساحته، وأنه كل ما دار عليه السور، وأن المصليات والساحات التي في داخله هي جزءٌ لا يتجزأ منه، وبيان فضائل المسجد، ومن ثمّ وجود الصحابة الكرام في جنبات هذه المدينة وفي مسجدها، ورحلتهم إليها، وكان له سهمٌ في تحريرها والاعتناء بمعالمها، وما يتصل بذلك من اهتمامٍ إسلاميّ متعاقب، من عمران وبناء، وما خرجته القدس عبر العصور الإسلامية المتتابعة من علماء أفذاذ، أو ممن زارها معلمًا أو متعلمًا، وما يتصل بذلك من تاريخ عريق لهذه المدينة، والتأكيد على أنها مدينة عربية وإسلامية، في سيرورة حضارية بالغة الأهمية والتأثير والفعالية.
الثالث: تسليط الضوء على ما يعانيه المسجد والمقدسيون من اعتداءات من قبل الاحتلال، وسعي الأخير للسيطرة على المسجد، من خلال الاقتحامات شبه اليومية، وأداء الصلوات اليهوديّة العلنية، وتدنيس المسجد، والأخطار المحدقة به، وهو مسار بالغ الأهمية، فاستشعار الأخطار، وأننا في مرحلة بالغة الخطورة إن من حيث ما تقوم به «منظمات المعبد» والدعم الذي تتلقاه من قبل حكومة الاحتلال، أو من حيث تصاعد الاعتداءات على الفلسطينيين في مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يجعل «طوفان الأقصى» ردًا طبيعيًا ومهمًا على ما يجري في القدس و«الأقصى» من تهويد و«أسرلة».
الرابع: التأكيد على أن المقاومة هي الحل الوحيد لتحرير المقدسات، وأن الاحتلال ومن قبله كل استعمار مرّ على أمتنا، لم يفهم إلا لغة البندقية، ولن يفهم غيرها، والمرور على النماذج الكبرى في مواجهة المستعمر، وما سطره الشباب خاصة من ملاحم بطولة ومواجهة، من أمثال الأمير عبدالقادر الجزائري، وعبدالكريم الخطابيّ، وعز الدين القسام، وعبدالقادر الحسيني.. وغيرهم، وأن مسار التضحيات الكُبرى التي نشاهدها في غزة يجب ألا يضيع سدى، فالمعركة مع الاحتلال لن تنتهي مع انتهاء المعركة، فنحن في حرب ضروس، ولن تتوقف محاولات المقاومين إلا بتحرير المقدسات، واستعادة كل فلسطين.
الخامس: دور الشباب إنْ في عملية «طوفان الأقصى» والإثخان في الاحتلال، فمجاهدو «القسام»، من الشباب الذين يسطرون البطولات، ويذيقون العدو الويلات، ويسومونه سوء العذاب، وفي الجهة الأخرى دور الشباب في تفعيل النصرة في مختلف أشكالها، من المقاطعة الاقتصادية لكل من يدعم العدو، وتنظيم الفعاليات والمظاهرات، وختامًا بالتفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي باللغات المختلفة.
أخيراً، وأمام هذه المسارات المتعددة، من الضرورة بمكان أن تتحمل الجهات الفاعلة بالأمة مسؤوليتها في تمكين الشباب ومساعدتهم على تحقيق والانخراط في المسارات السابقة، فبعضها ينطلق من الأسرة والتربية في المنزل، وبعضها يتم في المدارس والثانويات، ومن ثم من خلال الأطر الشبابية الفاعلة، وحركات التغيير، والجهات المدنية وغيرها، ما يجعل كل مسار بحد ذاته مسارًا للعمل، وإطارًا للتفعيل.